فتح دمشق سنة هـ

حصانة مدينة دمشق: كانت دمشق محصنة بسور ضخم عظيم وهي تمتد أمام جبل قاسيون الواقع في شمالها .. كان سورها يبلغ طوله 1600 مترا وعرضه نحو ألف متر وقد حفر حول السور خندقا عميقا واسعا مليء بالمياه. وكان في بعض نواحيه يبلغ العشرين مترا عرضا.. ويبلغ عدد بواباتها تسعة.. وقد بنى عند كل بوابة برج عال ينتهي بغرفة مربعة لإقامة الجنود. هذا وقد تم حصار المدينة من عدة جهات من قبل الجيش الإسلامي بقيادة أبي عبيدة بن الجرح وتولى كل أمير من أمراء الجيش الإسلامي حصار جهة معينة على النحو التالي: 1-أبو عبيدة بن الجراح نزل أمام باب الجابية لجهة غرب مدينة دمشق. 2-خالد بن الوليد نزل أمام الباب الشرقي حيث كان يوجد: دير صليبا وصار اسمه فيما بعد دير خالد. 3-يزيد بن أبي سفيان نزل أمام الباب الصغير وكان اسمه باب يونس قبل الفتح ثم أصبح اسمه باب كيان بعد الفتح نسبة إلى كيسان مولى معاوية بن أبي سفيان ويقع إلى الجنوب الشرقي. 4-عمرو بن العاص نزل على باب توما إلى الشمال من مدينة دمشق لجهة الشرق. 5-شرحبيل بن حسنة نزل أمام باب الفراديس لجهة الشمال الغربي لمدينة دمشق. التجسس على أحوال المسلمين: رأى نسطاس بن نسطوريوس وكان هو حاكم دمشق أن يتجسس على أحوال المسلمين أثناء الحصار فكلف رجلان من بني غسان بالأندساس في صفوف المسلمين وإخباره أمرهما، وكانا قد دخلا دمشق يتسوقان وهما من خارجها وذلك قبل الحصار.. واستطاع الرجلان أن يندسا بين المسلمين ثم رجعا ودخلا مدينة دمشق ولما قدما إلى نسطاس بن نسطوريوس سألهما ماذا شاهدا؟ فقالا له: أما الليل فطول قيام بالصلاة.. وأما النهار فالخير الظاهر والحرص على الجهاد.. وإن وجد أحدهم نعلا أو كبة شعر أو غزلا دفعها إلى صاحب المقسم فإذا قال صاحب المقسم: ما هذا؟ قالوا: لا نستحله إلا بحله. فقال عندئذ نسطاس: ما لنا بهؤلاء طاقة ولا لنا في قتالهم خير. فكرة الصلح مع المسلمين: أخذ بطريق دمشق نسطاس بن نسطوريوس يفكر بصلح المسلمين. وأثناء الحصار الطويل، كان المسلمون يتبادلون الحديث مع أهل دمشق وقد نشأت بين خالد بن الوليد وأهل الدير النازل بجواره علاقة صداقة ومودة متينتين، كما كان بطريق دمشق يقف على السور أحيانا ويتبادل الحديث مع خالد بن الوليد.. وفي أحد الأيام، قرر نسطاس بن نسطوريوس أن يتصل بأبي عبيدة ويسأله الصلح وخرج إلى السور حيث كان خالد بن الوليد فقال له البطريق: يا أيا سليمان .. إن أمركم مقبل ولي عليك عدة فصالحني على هذه المدينة. فأمر خالد بن الوليد بدواة وقرطاس وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أعطاهم أمانا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم ولا يسكن شيء من دورهم .. لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمؤمنين .. لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية. وشهد على كتاب الصلح شرحبيل بن حسنة وقضاعي بن عامر.. إلا أن بطريق دمشق لم يفتح أبواب مدينته أمام المسلمين رغم حصوله على كتاب بالصلح وأراد لآخر مرة أن يبعث إلى هرقل يطلب منه مددا كبيرا يفك طوق الحصار ويهزم المسلمين. إمدادات الروم لمدينة دمشق: بعث نسطاس برسالة إلى هرقل يقول فيها: إن العرب قد حاصرتنا وضيقت علينا وليس لنا بهم طاقة وقد قاتلناهم مرارا فعجزنا عنهم فإن كان لك فينا وفي السلطان حاجة فأمددنا وأغثنا وعجل علينا فإنا في ضيق وجهد .. وإلا فإنا قد أعذرنا واجتهدنا والقوم قد أعطونا الأمان ورضوا منا من الجزية اليسيرة. وكان جواب هرقل: تمسكوا بحصنكم وقاتلوا عدوكم فإنكم إن صالحتموهم وفتحتم لم يفوا لكم وأجبروكم على ترك دينكم وقاتلوكم وسبوكم واقتسموكم .. وأنا مسرح لكم الجيش في أثر الرسول. وبالفعل أرسل هرقل جيشا على غفلة من المسلمين إلى دمشق ثم ترك حمص وهرب إلى أنطاكية وتصدى المسلمون لذلك الجيش ودارت بين الجانبين معركة قصيرة انهزم بنتيجتها الروم وأخذ المسلمون يطاردونهم حتى ردوهم إلى مدينة حمص وكان المسلمون بقيادة ذي الكلاع الحميري حيث أمره أبو عبيدة بن الجراح بالإقامة بين حمص ودمشق على مسافة ليلة واحدة من دمشق حوالي 45 كيلو مترا في حين نزل أبو الدرداء على رأس فرقة من المسلمين إلى الشمال من مدينة دمشق بسفح جبل قاسيون عند قرية برزة وذلك ليكون حاجزا بين المسلمين وبين أي مدد قد يصل من حمص أو أنطاكية. بداية أحداث الفتح: كان خالد بن الوليد من خلال صداقاته لبعض أهل دمشق وأهل الدير القريب منها قد استطاع أن يبث له جواسيس داخل المدينة من أهل الدير. وصدف أن ولد لبطريق دمشق نسطاس غلام فرح به كثيرا وقرر الاحتفال بمولده وقد أمر بإقامة الولائم وتوزيع الخمر. وجاء من يخبر خالد بن الوليد بأمر ذلك الاحتفال وكان من أخبره بذلك أسقف دير خالد إذ قال له: إن الليلة هي ليلة عيد في دمشق وأنهم في شغل وأن الباب الشرقي ردم من الداخل بالحجارة وترك بلا حراسة. وتشاور خالد مع بعض أهل الدير فأشاروا عليه باقتحام الأسوار وعرضوا عليه تسليمه للسلالم المطلوبة على شرط أن يصالحهم على جزية قليلة إذا ما تم له فتح دمشق .. فوعدهم خالد بذلك خيرا.. وبسرعته المعهودة أرسل خالد بن الوليد إلى أبي عبيدة بن الجراح ليبلغ أمراء الجيوش الإسلامية بالاستعداد تلك الليلة لاقتحام دمشق .. وأبلغه أنه متى سمع المسلمون التكبير يصدر من أعلى السور وجب عليهم أن يهجموا ويحطموا الأبواب ويدخلوا المدينة. ثم أمر خالد بن الوليد بالقرب الكثيرة فنفخوها واختار جنودا من الذين يجيدون السباحة حيث أمرهم بالسباحة بواسطة القرب وبلوغ السور وقطع خندق الماء ثم استعار من الدير سلمين طويلين وأحضر مجموعة كبيرة من الحبال وربط في أطرافها تعاليق حديدية وكلف عمرو بن معد يكرب ومذعور بن عدي العجلي بنصب السلمين على السور والتسلق عليها لبلوغ سطح السور ثم ربط الحبال بواسطة التعاليق ليصعد عليها المسلمون. واختار خالد لتنفيذ هجومه بداية الفجر بعد منتصف الليل .. واحتفل أهل دمشق فأكلوا وشربوا حتى سكروا وشاركهم الحراس باحتفالهم وقد اعتقدوا أن المسلمين كالعادة مكتفين بالحصار ولن يهاجموهم. وفي الموعد المحدد سبح عمرو بن معد يكرب ومذعور بن عدي الحجلي وأمثالهما من البطال الأشداء الذين قارب عددهم المائة. تسلق سور المدينة: وصل عمرو بن معد يكرب فنصب السلم وتسلق عليه إلى مكان خال من الحراس دون أن يحدث أية جلبة أو ضوضاء. ونصب مذعور بن عدي سلمه وصعد عليه ثم أخذ عمرو ومذعور يعلقان الحبال بالسور .. وترك عمرو ومذعور بعض الرجال في مكان الحبال للحماية في حين تقدم المتسلقون بهدوء حتى بلغوا الباب الشرقي حيث خالد وجيشه .. وقتلوا حراسه بدون أدنى ضجيج. كان أهل دمشق قد تعبوا من طول السهر وكثرة الشراب والطعام فنام معظمهم .. وكان الجنود مسترخين بلا حول ولا قوة وقد لعبت الخمرة برؤوسهم .. ونزل عمرو بن معد يكرب ومذعور بن عدي والأبطال الذين معهما إلى الباب حيث أخذوا بإزالة الحجارة من خلفه. دخول المدينة: وفي وقت محدد إثر إشارة معينة انطلق صوت التكبير من أعلى السور فهب خالد بن الوليد كالأسد يتبعه رجاله حيث قطعوا أغلاق الباب الشرقي وفتحوه واندفعوا كالسبل الجارف داخل مدينة دمشق. وأذهلت تلك المفاجأة الجنود المتواجدين هناك فتصدوا للمسلمين في قتال شديد إلا أنهم لم يصمدوا طويلا أمامهم بل أخذوا يهربون داخل مدينتهم. وتابع خالد تقدمه نحو قلب دمشق وهو يطهر الأماكن التي يمر عليها من جنود الروم حتى إذا توغل مسافة غير قصيرة بزغت الشمس وعلم نسطاس بدخول المسلمين إلى دمشق عنوة فسارع باتخذ قراره بالصلح فورا وأمر بجميع الأبواب أن تفتح أمام المسلمين وهو يدعوهم إلى الصلح.. وفوجئ أمراء الجيوش الإسلامية بالأبواب تفتح أمامهم وبأهل دمشق يدعونهم للدخول إليها صلحا. ولم يعلم خالد بن الوليد بدخول أمراء الجيوش الإسلامية من الباب الغربي بالأمان، فتابع معاركه مع جنود الروم الذين كانوا يتصدون له أثناء اجتياحه المدينة حتى قابل أبا عبيدة في سوق الزيت، في قلب المدينة وهو اليوم: سوق النحاسين في دمشق. وأوقف خالد بن الوليد معاركه مع الروم وأهل دمشق بعد أن تقابل مع أبي عبيدة.. واحتار المسلمون بتفسير كيفية فتح دمشق فهي فتحت عنوة من جهتها الشرقية من قبل خالد بن الوليد بعد تلك العملية البطولية التي نفذها عمرو بن معد يكرب ومذعور بن عدي ورجالهما.. كما أنها فتحت بالأمان من جهتها الغربية أمام أبي عبيدة بن الجراح. واجتمعت كلمتهم على أن ما فتح منها عنوة أخذ أحكام العنوة وما فتح بالأمان أخذ أحكام الأمان وبذلك دخلت دمشق دين الله جل وعلا الإسلام لأول مرة لتصبح فيما بعد مهد للخلافة الإسلامية إبان الدولة الأموية