فتح بيت المقدس سنة هـ

في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي ا لله عنه كانت جيوش المسلمين تجوب الأرض شرقا وغربا لنشر دين الله في الأرض فدخلت كثير من البلدان في دين الله جل وعلا وكان من قادة المسلمين في ذلك الوقت أبو عبيدة بن الجراح والذي وصل بجنوده إلى دمشق وأقام فيها يحضر لفتح القدس وكان اسمها إيلياء أو بيت المقدس. ومن جهة أخرى كان عمرو بن العاص قد فتح جميع المدن والقرى في فلسطين ما عدا قيسارية والقدس، وقد صمم أبو عبيدة على فتح القدس أولا فاجتمعت الجيوش ا لمسلمة عند بيت المقدس فيها أبو عبيدة بن الجرج وعمرو بن ا لعاص ، أخذوا يستطلعون الأخبار ويعملون الحيلة لفتح المدينة الاجتماع برئيس بيت المقدس: كان رئيس بيت المقدس في ذلك الوقت رجل يقال له أرطبون وكان مشهورا بالدهاء والمكيدة فأرسل عمرو بن العاص إلى أرطبون يبلغه أنه سيبعث برسوله إليه ليجتمع به فوافق وهنا انتهزها عمرو بن العاص وعلم أنه لا يمكن أن يقابل مثل هذا الرجل إلا من هومثله في الدهاء والمكر فعزم على القدوم عليه بنفسه وإيهامه بأنه رسول القوم إليه، فسار إليها ودخلها واجتمع بأرطبون وتبين لأرطبون من خلال محادثاته مع عمرو فهمه وحدة ذكائه فقال في نفسه: إن هذا لعمرو بنفسه أو أنه الذي يأخذ عمرو برأيه. وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله، ثم دعا واحدا من حراسه وأسر إليه بقتل عمرو وقال: اخرج فقم مكان كذا وكذا فإذا مر بك فاقتله. وتنبه عمرو لما يدبره له أرطبون فقال له وهو يتظاهر بأنه يودعه ويعرض عليه أمرا جديدا: قد سمعت مني وسمعت منك. فأما ما قلته فقد وقع مني موقعا. وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي للكافة ويشهدنا أموره فأرجع فآتيك بهم الآن، فإذا رأوا في الذي عرضت علي مثل الذي أرى فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم وكنت على رأس أمرك. وأعجب أرطبون باقتراح عمرو فقال: نعم اذهب وأحضرهم، ثم أوعز إلى رجل من رجاله وقال له: اذهب إلى فلان فرده إلي. وخرج عمرو بت العاص من بيت المقدس وهو يقول: لا أعود لمثلها أبدا. وانتظر أرطبون فترة طويلة دون أن يرجع إليه عمرو وأصحابه فقال: خدعني الرجل.. هذا أدهى الخلق. ولما علم أمير المؤمنين بعد ذلك بالأمر قال: غلبه عمرو .. لله عمرو.. حصار بيت المقدس: حاصر جنود المسلمين بقيادة أبو عبيدة بن الجرح وعمرو بن العاص مدينة القدس حصارا شديدا حتى ضج أهلها فاجتمعوا إلى أرطبون فقالوا له: قد دار علينا حصارا شديدا من هؤلاء العرب ورجونا أن يأتينا مدد من قبل الملك، ولاشك أنه اشتغل عنا بنفسه من أجل هزيمة جيشه، وهم أشهر منا بالقتال وأنهم من يوم نزلوا علينا لم نخاطبهم بكلمة واحدة ولم نجبهم احتقارا منا لهم، والآن وقد عظم الأمر علينا فإنا نرى أن تشرف على هؤلاء العرب وتنظر ما الذي يريدونه منا، فإن كان صعبا فتحنا الأبواب وخرجنا إليهم فإما أن نقتل عن أخرنا وإما أن نهزمهم عنا، وإن كان أمرهم قريبا أجبنا إلى ما يريدون ويطلبون. المفاوضات: اقتنع أرطبون بقول أعوانه فصعد إلى السور وطلب من أحد النصارى أن يخاطب المسلمين فقال الرجل: يا معاشر العرب.. إن أرطبون قد أقبل يخاطبكم فليدن منا أميركم، وذهب المسلمون يخبرون أبا عبيدة بالكلام الذي سمعوه فقال: والله لأجيبه حيث دعاني. وقدم أبو عبيدة إلى السور ومعه جمع من رجاله وترجمانه معه فلما وصل إلى السور خاطبه أرطبون قائلا: ما الذي تريدونه منا في هذه البلدة المقدسة؟؟؟ ومن قصدها يوشك أن يغضب عليه الله ويهلكه. فقال أبو عبيدة عبر ترجمانه: قل لهم: إنها شريفة ومنها أسري بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء ودنا من ربه قاب قوسين أو أدنى، وأنها معدن الأنبياء وقبورهم فيها ونحن أحق منكم بها ولا نزال عليها، أو يملكنا الله إياها كما ملكنا غيرنا. فقال أرطبون: فما الذي تريدونه منا؟ قال أبو عبيدة: خصلة من ثلاث: أولها: أن تقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، فإن أجبتم إلى هذه الكلمة كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا، فقال أرطبون: إنها كلمة عظيمة.. وهذه خصلة لا نجيبكم إليها، فما الخصلة الثانية؟ قال أبو عبيدة: تصالحوننا عن بلدكم أو تؤدون الجزية عن يد وأنتم صاغرون كما أداها غيركم من أهل الشام. فقال أرطبون: هذه خصلة أعظم علينا من الأولى وما كنا بالذي يدخل تحت الذل والصغار أبدا. فقال أبو عبيدة: ما نزال نقاتلكم حتى يظفرنا الله بكم ونستعبد أولادكم ونساؤكم ونقتل منكم من خالف كلمة التوحيد وعكف على كلمة الكفر. فقال له أرطبون: فإنا لا نسلم مدينتنا أو نهلك عن آخرنا، وكيف نسلمها وقد استعددنا بآلة الحرب والحصار وفيها العدة الحسنة والرجال الشداد ولسنا كمن لاقيتم من أهل المدن الذين أذعنوا لكم بالجزية. فقال أبو عبيدة: بل سندخلها ونطهر مدينة الأنبياء منكم ومن كفركم. فقال أرطبون: إنكم لو أقمتم علينا عشرين سنة ما فتحتموها أبدا، وإنما تفتح لرجل صفته ونعته في كتبنا ولسا نجد صفته ونعته معك أبدا. ثم أخذ أرطبون يعدد صفات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ويصف جسمه ووجهه وشكله فتبسم عندها أبو عبيدة وقال: فتحنا البلد ورب الكعبة. كان أرطبون يهدف من وراء ذلك إلى تسليم مدينة القدس إلى عمر بن الخطاب شخصيا نظرا لما لتلك المدينة من قدسية وبركة وشرف. كتاب أبي عبيدة لأمير المؤمنين: عند ذلك كتب أبو عبيدة إلى أمير المؤمنين كتابا جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله أبو عبيدة بن الجراح. أما بعد: السلام عليك.. فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. واعلم يا أمير المؤمنين أنا منازلون لأهل مدينة إيلياء نقاتلهم أربعة أشهر كل يوم نقاتلهم ويقاتلوننا وقد لقي المسلمون مشقة عظيمة من البرد والأمطار إلا أنهم صابرون على ذلك ويرجون الله ربهم، فلما كان اليوم الذي كتبت إليك الكتاب فيه أشرف علينا بطريكهم الذي يعظمونه وقال: إنهم يجدون في كتبهم أنه لا يفتح بلدهم إلا رجل يعرفون صفته ونعته، يعنون عمر . مشاورة أمير المؤمنين بشأن الكتاب: فلما قرأ عمر بن الخطاب الكتاب استبشر به واستشار أصحابه في ذلك وقال لهم : ما ترون رحمكم الله فيما كتب به أبو عبيدة. فكان أول من تكلم عثمان بن عفان فقال: أقم ولا تسر إليهم فإذا رأوا أنك بأمرهم مستخفن ولقتالهم مستحقر فلا يلبثون إلا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية. وقال علي بن ابي طالب: إني أرى أنك إن سرت إليهم فتح الله هذه المدينة على يديك وكان في مسيرك الأجر العظيم. ففرح عمر بن الخطاب بمشورة علي فقال: لقد أحسن عثمان النظر في المكيدة للعدو وأحسن علي المشورة للمسلمين فجزاهما الله خيرا ولست آخذا إلا بمشورة علي فما عرفناه إلا محمود المشورة ميمون الغرة. ثم طلب أمير المؤمنين من المسلمين الذين يريدون الخروج معه أن يتجهزوا وبعث إلى أمراء الجيوش الإسلامية لموافاته في الجابية، وخرج أمير المؤمنين بعد أن استخلف على المدينة المنورة الإمام علي بن أبي طالب حتى إذا وصل إلى الجابية ثم تقدم من أبي عبيدة وحاول تقبيل يده فانحنى أبو عبيدة محاولا تقبيل رجل عمر، فكف أمير المؤمنين وكف أبو عبيدة ووصل بعد ذلك عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فقبلا ركبتي عمر فاحتضن كل واحد منهما، وفرح المسلمون فرحا لا يوصف بوجود أمير المؤمنين في صفوفهم فتعالت أصواتهم بالتهليل والتكبير. دخول بيت المقدس: في الوقت الذي وصل فيه أمير المؤمنين إلى الجابية استطاع أرطبون القدس أن يفر منها إلى مصر وأرسل أبو عبيدة إلى من ينوب عنه بقدوم أمير المؤمنين وللدخول إلى القدس وكان اسمه العوام وأرسل معه كتاب كتبه عمر لأهل القدس، وقبل أن يتوجه إليها عين علقمة بن حكيم على نصف فلسطين وأسكنه الرملة وعين علقمة بن معزر على نصفها الآخر واسكنه إيلياء وجعل عمرو بن العاص أميرا على الجيش الإسلامي الذي سيتولى فتح مصر. وركب أمير المؤمنين فرسه واتجه نحو بيت المقدس حيث فتحت أمامه بوابة المدينة واستقبله العوام وكبار أهلها. فكان ذلك المشهد من أعظم مشاهد الفتوحات الإسلامية.