توحيد الفقه والفتوى.. هل يمكن أن ينهي اختلاف الفقهاء ؟!

توحيد الفقه الإسلامي رغبة تتردد أصداؤها على ألسنة بعض الناس منذ سنوات. ووجود اتحاد للعلماء في العالم الإسلامي يصدر الفتاوى للأمة الإسلامية، حتى لا تختلف الفتوى، مطلب نادى به الكثير من الناس، بل وبعض العلماء. والسؤال الذي يطرح نفسه ما مدى إمكانية ذلك؟ وهل يمكن أن تحقق مسألة توحيد الفقه والفتوى المقصود منها بحيث ينتهي الخلاف في المسائل الفقهية بين العلماء؟ أم أن مثل هذا الأمر لا يمكن ولماذا؟ حول هذا الموضوع كان لقاءنا مع كل من فضيلة مفتي لبنان الشيخ محمد رشيد قباني وفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن بيه (عضو المجمع الفقهي الإسلامي والأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز) بالإضافة إلى رأي فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله العالم والفقيه المعروف . فكرة إنشاء هيئة للعلماء لها أثرها لكنها غير ملزمة بداية يرى فضيلة مفتى لبنان أنه يمكن إنشاء هيئة عالمية للإفتاء تجمع نخبة من علماء المسلمين، الفقهاء في دين ا لله عز وجل، ويقول فضيلته إنه لا شك أنه حين تصدر الفتاوى في القضايا الدقيقة والمصيرية عن هذه الهيئة، سوف تجد قبولا وانتشارا أوسع وحول ما إذا كانت فتاوى هذه الهيئة تكون ملزمة للجميع لا يمكن مخالفتها يقوله فضيلته لا يمكن أن نقول إن فتاوى هذه الهيئة تكون ملزمة وأنها القول النهائي في هذه القضية أو تلك لأن العلماء والمجتهدين منتشرون في العالم الإسلامي، ويمكن أن يكون لهم وجهة نظر أخرى مبينة أيضا على الأدلة الشريعة، ولكن الفتوى الصادرة عن الهيئة العالمية للإفتاء ستجد انتشارا وقوبلا أوسع وخاصة في الأمور ا لدقيقة والمصيرية كما ذكرت من قبل خاصة إذا كانت هذه الهيئة تمثل العلماء في جميع أنحاء العالم القضايا المصيرية للأمة لا بد فيها من اجتماع لكبار العلماء ويؤكد فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه على أن بعض القضايا المتعلقة ببعض أبواب الفقه مثل العبادات والمعاملات وغيرها قد اختلف العلماء فيها قديما وحديثا ولا يمكن أن نقول إن الفتوى فيها لا بد أن تكون واحدة وما أفتى به فلا صار ملزما هذا لا يصح مطلقا لأن في ذلك تضيقا على المسلمين وهو مخالف لسماحة الشريعة ومعارض للدعوة إلى الاجتهاد الذي جاءت به الشريعة الإسلامية والذي أقره النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من أحاديثه. وإن كان الشيخ عبد الله بن بيه يرى عدم صحة مثل هذه الدعوى فإنه في نفس الوقت يرى القضايا الكبرى ينبغي أن يراجع فيها كبار العلماء بحيث تكون الفتوى فيها شبه موحدة وتقل فجوة الاختلاف خاصة القضايا المتعلقة بمصير الأمة أسباب استحالة توحيد الفقه والفتوى ويوضح فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله الأسباب المانعة من إمكانية توحيد الفقه والفتوى واستحالته، ليس في العالم العربي والإسلامي فحسب، بل أيضا في دنيا القانون وعلمائه كافة، بأن النظم عامة في كل مجتمع نظامي، سواء أكان نظامه وضعيا أم كان إلهي المصدر، إنما تتألف من نصوص إلزامية، وهذه النصوص دائما لا يمكن أن تستوعب بالصراحة جميع الحالات الممكنة الوقوع، فإذا وقعت حوادث مما سكتت عنها النصوص فلابد عندئذ من إعمال الفكر لإعطاء الحادثة حكما مناسبا لروح النصوص، وأقرب إلى غرض الشارع، وذلك بطريق القياس، أو بالتخريج على القواعد العامة، وهذا فقه. تعدد وجوه القياس من أسباب الخلاف ويبين فضيلته بأنه قد تتعدد وجوه القياس، فتبدو للفقهاء في المسألة الواحدة طرق قياسية عديدة كل منها وجيه النظر، فتختلف آراؤهم في أيها هو الأوجه والأقوى، ويختلف في النتيجة الحكم الذي يترجح في نظر كل منهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد يكون النص نفسه يحتمل أن يفهم على أكثر من وجه، وتكون كلها مقبولة رغم اختلافها. فهذا مجال واسع في فهم النصوص وتفسيرها، تختلف فيه آراء العلماء في ترجيح الفهم الذي يرى العالم الفقيه أنه هو الصحيح أو الأصح أو الأقرب إلى غرض الشارع أو الأكثر انطباقا على القواعد المقررة المستمدة من مجموع النصوص ذات العلاقة في كل موضوع، وكل ذلك أيضا هو فقه يقوم حول النصوص التشريعية، فهما لها، وقياسا عليها، وتفريعا على قواعدها، وتخصيصا لعموماتها بالقرائن، أو تعميما للخاص منها، ونحو ذلك مما لا يمكن أن تتحد فيه فهوم العلماء، فكيف يمكن توحيد الفقه إذن؟ إن ذلك لا يمكن إلا إذا أمكن الحجر على أفكار العلماء حتى لا يستطيع أحد أن يفهم من النص التشريعي غير ما يفهمه سواه، ولا أحد يتصور إمكان هذا الحجر!! فلابد من أن تختلف آراء الفقهاء من حول النصوص. وهذا واقع في ظل نصوص التقنين الوضعي كما في نصوص الشريعة الإسلامية من الكتاب والسنة النبوية، والفقه القانوني زاخر بالآراء والنظريات والمذاهب المختلفة، بل والمتعاكسة في كثير من مسائله وموضوعاته. ومن ثم تتكون المذاهب الفقهية نتيجة لاختلاف الآراء الاجتهادية في تنزيل الوقائع على النصوص والقواعد . الاختلاف أيضا له فوائده هل الحجر، لو أمكن، ووحدة فهم الفقهاء في تفاصيل الأحكام الاحتمالية وتفرعاتها، الأفضل والأصلح في ظل النظم التشريعية ونصوصها؟ بمعنى أن اتفاق آراء الفقهاء في كل صغيرة وكبيرة من المسائل الأساسية والفرعية هو خير للأمة؟ يقول فضيلة الشيخ الزرقاء رحمه الله إن الخير والأفضل هو في خلاف ذلك قطعا، أي هو في اختلاف فهومهم واجتهاداتهم. لأن هذا الاختلاف في الفهم والاستنتاج من النصوص يوجد في الأمة ثروة من الفكر التشريعي هي محل اعتزاز وامتياز للأمة، ويوجد لديها من مختلف المبادىء والقواعد والأنظار الفقهية والنظريات الحقوقية أسسا صالحة لحل المشكلات العارضة باختلاف الظروف، ويفتح مجالات واسعة لاختيار الحلول الأفضل كلما دعت الحاجة وأظهر التطبيق بعض المشكلات، أو كشف عن بعض الفجوات التي تحتاج إلى ملء بأحكام مناسبة مستمدة من روح النصوص وغرض الشارع. وهذا مجمل ومعنى ما ورد في الأثر اختلاف أمتي رحمة وهو نص حديث نبوي ضعيف الثبوت لكنه صحيح المعنى. والمراد به الاختلاف في الفروع، أي في مسائل الفقه العلمية، أما الاختلاف في أصول الدين والعقائد فهو مصيبة تمزق الأمة، كما أوضحه الإمام المناوي وغيره (ينظر فيض القدير شرح الجامع الصغير تحت الحديث 288) فمن الخير والنعمة هذا الاختلاف الفقهي الذي أورثنا تلك الثروة الفقهية الهائلة متعددة الآراء وجمة العطاء. موقف المسلم من الاختلاف إذا كان توحيد الفتوى والفقه غير ممكن أبدا فإن هذا السؤال يفرض نفسه وهو ما موقف المسلم من الخلاف الحاصل بين العلماء في بعض الفتاوى؟ يجيب عن ذلك فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه حفظه الله بقوله: إن الواجب على المسلم أن يتحرى القول الأرجح في كل مسألة والقول الذي يحقق المصلحة للمسلين ويجنب المسلمين المفاسد بحيث لا يكون عاريا عن الدليل وهذا الأمر يحتاج إلى بصيرة وعلم وفقه فإذا كان لا يستطيع ذلك فإن عليه أن يتبع من العلماء من هو أكثر فقها وعلما وممن يعرف عنه التقوى والصلاح والتحري في الفتوى وعدم التسرع فيها أو الفتوى بغير علم فإذا ما أفتاه عالم بهذه الصفات في مسألة ما فإن عليه أن يعمل بما أفتاه بها ولا شيء عليه بعد ذلك .