الخليفة العباسي ( المأمون )

نسبه ومولده: هو عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد بن أبي جعفر المنصور، لقب بالمأمون ولد في الري سنة 170هـ. كان الرشيد قد عني بتربية وتنشئة أبنائه، فاختار لهم كبار رجالات العالم والأدب في عصره، فنشأ المأمون على حب العلم والأدب والتعلق بالعلماء، فجعله أبوه وليا للعهد بعد أخيه الأمين الذي كان يصغره سنا. ولولادته قصة طريفة: كان والده هارون الرشيد متزوجا من ابنة عم له تدعى زبيدة وكانت زبيدة قد أمضت عدة أعوام تحت كنف الرشيد، دون أن تحمل منه فكان ذلك مبعث أسى وحسرة في نفس الرشيد التواقة إلى البنين الشغوفة بالولد وكان في ذلك الحين وليا للعهد. ينازعه فيه أخوه موسى الهادي ويعمل على انتزاعه وغصبه، فتضاعفت همومه وأحزانه وفي ذات يوم كان يحدث بعض خاصته فيما يعانيه، فأشار المحبون المخلصون منهم عليه بأن يتزوج من غير زبيدة لعل الغيرة تحرك فيها عوامل الحمل.. وضربوا له مثلا بما كان من أمر سيدنا إبراهيم الخليلن عليه السلام، بين سارة وهاجر ففكر هارون في الأمرن ثم عزم على تنفيذ النصيحة، فتزوج من جارية خراسانية تدعى مراجل من قرية باذغيس ودخل بها في القرية التي كانت تقيم فيها وهي تقع على ضفة نهر عيسى تسمى الياسرية قريبة من بغداد وسرعان ما حملت مراجل من هارون وكذلك زبيدة وكان الوقت بين ولادة المأمون و الأمين أشهرا قليلة ومن جميل الصدف أن تكون ولادة المأمون في اليوم الذي وسد فيه أمر الخلافة إلى الرشيد وانتقل من ولاية العهد إلى إمارة المؤمنين. ولاية المأمون للعهد :- رأت زبيدة أن تعجل الأمر وتوثقه إلى ولدها الأمين، وسعت بكل ما أوتيت من تدبير وذكاء وسلطان إلى الرشيد لكتابة ولاية العهد لولدها الأمين لكن ضمير الرشيد ظل يؤرقه ويضايقه بعد ذلك لما يعلم من كفاءة المأمون وصلاحيته للخلافة، ولم يسترح حتى كتب كتابا آخر يضمن فيه ولاية العهد للمأمون بعد الأمين وأخذ من كلا الأخوين موثقا على ذلك. وأشهد عليهما. في ميدان الجهاد:- لما بلغ المأمون في شبابه المقدرة على مباشرة المعارك والحروب وقيادة الجيوش، الرشيد يوجهه على رأس قوات المسلمين لخوض المعارك تدريبا منه له على القيادة ، وكسبا لفضل الجهاد في سبيل الله. فأثبت المأمون مقدرة فائقة في قيادة الجند وحسن إدارة المعارك وكسب النصر على الأعداء خصوصا مع الروم، ولقد ترك ذلك أثره العظيم في نفس الرشيد فازداد إقباله على المأمون. والي خراسان: - رأى الرشيد ازدياد حدة المنافسة بين المأمون وأخيه الأمين، وخشي مغبة ذلك مستقبلا على وحدة الأمة وتماسك الدولة من خلال انشقاق الأخوين، فرأى أن يوزع جهودهما وممارسة سلطانهما على البلاد المترامية الأطراف ويحدد لكل منهما مقاطعة الحكم والسلطان، فجعل الأمين قيما على العراق والشام والحجاز ومصر، وجعل المأمون قيما على خراسان، وما وراءها من ديار الشرق الإسلامي. ولم يكن الاختيار على عبث أو دون رأي وتدبير، ذلك أن أخوال المأمون كانوا من خرسان فكان ذلك أوحد وأثبت لحكمه وسلطانه، أما الأمين فأمه عربية هاشمية فكانت إمارته على البلاد ا لعربية أليق به ، ومن ثم أقام المأمون في مرو حاكما مطلق اليد، يدين بالطاعة والولاء لأمير المؤمنين هارون الرشيد ومن بعده لأخيه الأمين ولي العهد. وقد أثبت المأمون في ميدان الحكم قدرة عظيمة على ضبط الأمور وحسن الإدارة والتوجيه وتنظيم البلاد. والعدل بين الناس. الشقاق: كان الحكم وسدة السلطان في نظر الأمين مجال ترف واستمتاع وغرق في اللذات واستياق الشهوات، على عكس ما كان المأمون الذي جند نفسه بكل طاقاته وإمكاناته لخدمة ولايته والاضطلاع بمسؤوليات الفتح ورد العدوان وتثبيت الأمن والاستقرار، ولقد تهيأ لكلا الطرفين من يزين له موقفه ، وبدأت حدة النزاع والشقاق تظرهر بين الأخوين، وأخذ كل منها ينتهز الفرصة لاستلاب الحكم من أخيه ، وكانت البداية من الفضل بن الربيع وزير الأمين الذي زين له أن يخلع أخاه من ولاية العهد ويجعلها في ولده من بعده، وقد راقت هذه الفكرة للأمين فعمل على تنفيذها على مراحل، فبدأ ببذر الفتنة وقطع صلة الرحم فزاد في الإيذاء والضرر لأخيه المأمون، فجرد الخليفة من بغداد جيشا تعداده 40 ألف مقاتل ووجهه إلى خراسان لإخضاع المأمون والإتيان به أسيرا أو قتله إن قاوم وركب رأسه. واستشار المأمون وزيره الناجح الفضل بن سهل فأشار إليه بعدم التخاذل والضعف فلابد من مقاومة جند الأمين، وفعلا التقى الجيشان في معارك ثلاث وكان النصر فيها حليف جيش المأمون وهزم جيش الأمين شر هزيمة، وقتل الأمين عندما ولى هاربا على يد طاهر بن الحسين ثم حمل رأسه إلى المأمون فبكى وحزن لما آل إليه أمر الخلاف بينه وبين أخيه، وهكذا انتهى أمر الأمين ودوره من على مسرح الحكم وبدأت الدولة العباسية عهدا جديدا هو عصر المأمون بكل ما في الكلمة من معنى، وكان ذلك سنة 198هـ. أهم أعمال المأمون: - يعتبر عصر المأمون العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فقد كان المأمون نفسه على درجة كبيرة من الثقافة، شجع العلماء والأدباء، وأجزل لهم العطاء، وأسس المرافق العلمية المختلفة والبيمارستانات والمراصد، وشجع الترجمة، حيث قطعت الحضارة الإسلامية في العصر العباسي شأوا بعيدا في مضمار التقدم، ومن أهم أعماله: أولا: استعادة بغداد: بعد انتهاء الفتنة التي دارت بين الأمين والمأمون، كان متوقعا أن يكون للعنصر الفارسي الذي شد عضد المأمون تأثيرا كبير على سياسته الداخلية فاعتمد على وزراء ومستشارين من الفرس، كالفضل بن سهل والحسن بن سهل. بل عمل على تحويل الخلافة العباسية إلى آل علي بن ابي طالب رضي الله عنه، حينما جعل ولاية العهد في علي رضا بتأثير من أولئك الوزراء فلم ترض هذه السياسة أنصار العباسيين، وخرجت بغداد وبايعت بالخلافة إبراهيم بن مهدي. عل المأمون وعندما شعر بالخطر قرر المسير إلى بغداد، وفي الطريق توفي علي رضا والفضل بن سهل في ظروف غامضة، فقام بإعادة الأمر إلى العباسيين، وعندما صار المأمون على مشارف بغداد خرج الناس للقائه وخلعوا عمه وبايعوه وذلك سنة 204هـ. ثانيا: القضاء على حركة آل علي بن أبي طالب: كانت سياسة المأمون كما أسلفنا تقوم على تقريب آل علي بن أبي طالب حتى كاد ينقل الخلافة إليهم، ومع ذلك فلم يسلم عهده من ثوراتهم، حيث خرج محمد بن جعفر بن محمد بن علي زين العابدين وبويع بالخلافة في مكة غير أن المأمون أرسل إليه جيشا فقضى على ثورته وظفر به ثم عفا عنه وأطلق سراحه. ثالثا: الولايات في عهده: كانت أولى الولايات التي انفصلت عن الدولة العباسية هي الدولة الأموية في الأندلس التي استقر بها الأمير عبد الرحمن بن معاوية في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور ثم تبعتها بعد فترة دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى وبعض دويلات الخوارج، وقد ترتب على قيام هذه الدول أن عمدت الدولة العباسية منذ عهد الرشيد إلى إنشاء حزام من الإمارات شبه مستقلة، مثل دولة بني الأغلب في تونس، ودولة بن زياد في اليمن تحكمها أسرة موالية للخلافة بإمكانها التصدي للأخطار المحدقة بالخلافة من ناحية وأن تدعم وجودها من ناحية أخرى، أما الدول التي استقلت في عهد المأمون فهي: 1-الدولة الزيادية في اليمن: وذلك أنه عندما تولى المأمون الخلافة شعر بضرورة الحيلولة دون وقوع اليمن ضحية للفتن، فعين محمد بن إبراهيم الزيادي أميرا عليها سنة 204هـ فقام بالقضاء على عناصر الفتنة وظلت الأسرة الزيادية تحكم اليمن مدة طويلة. 2-إمارة خراسان: وكان أميرها طاهر بن الحسين أحد قادة المأمون الذين أبلوا بلاء حسنا في تثبيت أركان الخلافة وقد كافأه المأمون بولاية خراسان التي استمرت في عقبه ردحا من الزمن. رابعا : حمل الناس على القول بخلق القرآن كان المأمون محبا للعلماء مقربا لهم وقد استطاع ابن أبي دؤاد عالم المعتزلة في زمانه القرب منه والاستحواذ عليه فزين له حمل الناس على القول بخلق القرآن وتشدد في ذلك فأثار المأمون هذه الفتنة ودعا الناس إلى القول بها وتهدد وتوعد كل من لم يجب من الفقهاء والعلماء والدعاة وقد استمرت الفتنة على ذلك ولقي الناس بلاء وشدة من هذا الأمر وثبت من ثبت من العلماء رغم ما تعرضوا له من التعذيب والإيذاء حتى انتهت هذه الفتنة في عهد الخليفة المتوكل على الله . أخلاقه: كان المأمون من أكثر بني العباس حزما وعزما وهيبة وحلما وكان فصيحا مفوها وخطيبا بارعا، يعد من أكثر بني العباس ثقافة وإطلاعا، أكرم العلماء وقربهم إليه، ولكنه انغمس في التيارات المذهبية التي كانت سائدة آنذاك وحاول حمل الناس على مذهبه في الاعتزال وهو: القول بأن القرآن مخلوق وغير منزل وقد نكل المأمون بالعلماء الذين لم يوافقوه على ذلك المذهب ومن أشهرهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. وفاته: توفي أبو العباس عبد الله بن المأمون خلال إحدى الغزوات التي كان يقودها ضد الروم سنة 218 ودفن في طرطوس.