فالنتين راسبوتين ... شاعرية الحياة الشعبية وتراجديتها

أصدرت دار نشر فاجريوس الروسية مجلدا جديدا يتضمن مجموعة من القصص الجديدة للكاتب الروسي فالنتين راسبوتين. القصص الأخيرة التي كتبها راسبوتين في السنوات الأخيرة تتضمن حالة من الكشف والتوغل في قاع روسيا الجديدة التي يرفضها الكاتب على الرغم من عشقه لها. فـ منزل ريفي (1999) هو روسيا الواسعة بكل تناقضاتها وفي جميع مراحلها، وبالذات في السنوات الأخيرة. أما مهنة جديدة (1998) فهي عبارة عن تجليات الافتراق والاختلاف والتشتت والتلاشي كل التعبيرات الدالة على السقوط بمعناه الفلسفي ـ الأخلاقي ـ المادي، والحديث يدور هنا حول الدولة والأرض والإيمان والتاريخ والتشريعات واليقين والأفكار. القصص الأخرى تأتي في إطار الشجاعة الراسبوتينية المثيرة لإزعاج محبي الاستقرار وأنصار ليس في الإمكان أبدع مما كان، والمفزعة للقراء الذين يسلمون أنفسهم لأبحاث راسبوتين الاجتماعية ـ الفلسفية مؤمنين تماما بأنه لن يقودهم إلى المجهول بقدر ما سيتجول بهم في أنحاء روسيا الواسعة كاشفا عما يحاولون إغماض عيونهم عنه بالتلفزيون والسينما. إنجاز إبداعي كان راسبوتين قد حصل على جائزة سولجينيتسين الأدبية لعام 2000م في سابقة تعتبر الأولى من نوعها بالنسبة لكاتب معاصر. حيث رأت لجنة التحكيم في كلمتها أن راسبوتين يتميز بالقدرة على: التعبير الثاقب والحاد عن شاعرية الحياة الشعبية وتراجيديتها، والجمع بين الطبيعة الروسية والخطاب الروسي، والإحساس الروحي والحكمة في نشر مبادئ الخير والجمال. أما الأسباب التي أثارت اهتمام الدوائر الأدبية الروسية والأوروبية فترجع إلى أن اسم راسبوتين، ككاتب وشخصية اجتماعية وسياسية نشطة، مرتبط بتوجهات اجتماعية وسياسية وفكرية محددة لا تتوافق مع الأفكار والأيديولوجيات الجديدة السائدة. ومع ذلك فقد حاز قرار اللجنة على ترحيب شعبي ضخم لأن الجائزة تعبر في المقام الأول عن اختيار إبداعي ـ أخلاقي ـ قيمي. تألق رغم التضييق وفالنتين جريجوريفيتش راسبوتين، بدون شك، يعتبر أهم كاتب روسي في النصف الثاني من القرن العشرين. ولعل رواياته المهلة الأخيرة ونقود لماريا وعش وتذكر ووداعا ماتيورا أكبر مؤشر على امتزاج أدب راسبوتين وفكره الفلسفي والاجتماعي بالثقافة الشعبية الروسية. بل وتعتبر العديد من قصصه القصيرة مثل دروس اللغة الفرنسية والعجوز ورودولفيو وغيرها من أهم القصص التي تنتمي إلى الأدب الروسي العاطفي، الأمر الذي جعلها إلى جانب رواياته تدخل إلى البرامج الدراسية في المدارس الروسية منذ أكثر من 20 عاما. وحاولت وسائل الإعلام الروسية منذ بداية التسعينيات، نظرا لانتماءاته الفكرية، دفع اسمه وإنتاجه الأدبي إلى دائرة الظل. ولكن نشاط الكاتب الإبداعي والاجتماعي وقف أمام الآلة الإعلامية الروسية الجديدة بصلابة نادرة. وقامت مجلة ناش سيفريمينك (معاصرنا) خلال النصف الثاني من التسعينيات بنشر مجموعة ضخمة من رواياته القصيرة مثل في المستشفى والمفاجأة ومنزل ريفي ومهنة جديدة، الأمر الذي دفع العديد من دور النشر إلى إصدار المؤلفات الكاملة لراسبوتين في أكثر من طبعة. الكاتب القروي في الفترة الأخيرة يحاول بعض النقاد دفع اسم راسبوتين وإبداعاته في دائرة ضيقة تحت تصنيف الكاتب القروي أو كتابة القرية وتحت دعوى أن راسبوتين ولد في قرية، ويتناول القرية الروسية في معظم أعماله .. إلخ إلا أن الكاتب على الرغم من استلهامه التراث الروسي، وبالذات تراث القرية الروسية لا يسجن نفسه إطلاقا في مفاهيم ضيقة أو قصيرة المدى، وإنما ينطلق (مثل تشيخوف) من الصغير والبسيط إلى الفضاء الإنساني الواسع بكل ما يحمل من مفاهيم ومضامين وحركة دائبة. ولعل راسبوتين يسبب إزعاجا للنقاد الروس الجدد الذين ارتاحوا إلى التساؤلات القديمة العامة والشمولية من قبيل ما العمل؟، وإلى أين؟، وما الموضوع؟ .. إن راسبوتين يطرح أسئلة محددة من قبيل ما العمل في هذا الموضوع؟، وإلى أين نتجه الآن؟، وما الموضوع المتعلق بهذه الفكرة تحديدا؟، وهل تشعر بالخجل عندما تجرع الفودكا كالخنزير وهم يبيعون مصانع الألومنيوم في سبيريا؟، وألا تخجل من نفسك عندما تدخن الماريجوانا، والعلماء في أكاديمية العلوم ينتحرون؟.