الشيخ أبو غدة يتساءل ..هل قصرت هممنا عن هؤلاء؟

من يطالع سير العلماء السابقين يجد فيها عزائم خارقة، وهمما سامقة، لا يبلغ الخيال عند بعض الناس إلى ما بلغته حقيقة، من احتلال ذروة الفضل والمجد وارتقاء سنام العلم والمكانة الرفيعة وحيازة الذكر العطر الدائم والأجر الباقي المستمر وغير ذلك من الفضائل والمآثر. وأصحاب تلك العزائم لا يختلفون عنا في طبيعتهم الإنسانية وقدرهم الخلقية، وإنما يختلفون عنا في علو الهمة ودأب العزيمة وتجشم الصعاب وامتطاء العقبات، فما كان فوزهم بما فازوا به ناشئا عن شيء ليس في وسعنا الوصول إليه أو الحصول عليه، أو ناشئا عن معجزات سماوية أكرموا بها أو خوارق عادات أوتوها وحرمنا منها نحن ولم نؤتها، بل إن بلوغهم ما بلغوه وفوزهم بما نالوه إنما يعتمد على علو الهمة ومضاء العزيمة وتزايد الصبر والدأب حتى إدراك الأمنية والطلب. كلمات مضيئة في علو الهمة وللإمام أبي الفرج بن عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة 597هـ في كتابه النافع العجاب: (صيد الخاطر) كلمات قالها في علو الهمة ، تحدث بها عن نفسه في علو همته، استحسنت أن أجمع جملا منها وأوردها في هذه الصفحات لعلها تحفز همم طلبة العلم إلى أعالي المعالي وتأخذ بعزماتهم إلى بلوغ الأماني، فإن العزائم يشحذ بعضها بعضا. قال رحمه الله تعالى ما يلي: من علامة كمال العقل: علو الهمة والراضي بالدون دني! قال الشاعر: إذا ما علا المرء رام العلا ??? ويقنع بالدون من كان دونا! وما ابتلي الإنسان قط بأعظم من علو همته، فإن من علت همته يختار المعالي، وربما لا يساعد الزمان وقد تضعف الآلة فيبقى في عذاب وإني أعطيت من علو الهمة طرفا، فأنا به في عذاب ولا أقول: ليته لم يكن، فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل! والعاقل لا يختار اللذة بنقصان العقل! ومن رزق همة عالية يعذب بمقدار علوها، كما قال الشاعر: وإذا كانت النفوس كبارا ??? تعبت في مرادها الأجسام علو الهمة يشمل جوانب الحياة وبيان هذا أن من علت همته طلب العلوم كلها ولم يقتصر على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا ما لا يحتمله البدن. ثم يرى أن المراد العمل، فيجتهد في قيام الليل وصوم النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم صعب، ثم يرى ترك الدنيا، ويحتاج إلى ما لابد منه، ويحب الإيثار ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرم البذل ، ويمنعه عز النفس عن الكسب من وجوه التبذل. فإن هو جرى على طبعه من الكرم احتاج وفقر وتأثر بدنه وعائلته ( )، وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك. وفي الجملة: يحتاج إلى معاناة وإلى جمع الأضداد، فهو أبدا في نصب لا ينقضي وتعب لا يفرغ، ثم إن حقق الإخلاص في الأعمال زاد تعبه وقوي وصبه! فأين هو ممن دنت همته؟ إن كان فقيها فسئل عن حديث قال: لا أعرفه، وإن كان محدثا فسئل عن مسألة فقهية قال: ما أدري؟ ولا يبالي إن قيل عنه مقصر! والعالي الهمة يرى التقصير في بعض العلوم فضيحة، قد كشفت عيبه وقد أرت الناس عورته، والقصير الهمة لا يبالي بمنن الناس! ولا يستقبح سؤالهم! ولا يأنف من رد! والعالي الهمة لا يحمل ذلك، ولكن تعب عالي الهمة راحة في المعنى، وراحة قصير الهمة تعب وشين إن كان ثم فهم! والدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي، فينبغي لذي الهمة العالية أن لا يقصر في شوطه، فإن سبق فهو المقصود، وإن كبا جواده مع اجتهاده لم يلم. ابن الجوزي وعلو همته وخلقت لي همة عالية تطلب الغايات، بلغت الستين وما بلغت ما أملت، فأخذت أسأل الله تطويل العمر- وقد عاش 89سنة- ، وتقوية البدن، وبلوغ الآمال، فأنكرت علي العادات وقالت: ما جرت العادة بما تطلب، فقلت: إنما أطلب من قادر على تجاوز العادات. ونظرت إلى علو همتي فرأيته عجبا! وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه، لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها، وأريد استقصاء كل فن، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه، فإن عرض لي ذو همة في فن قد بلغ منتهاه رأيته ناقصا في غيره فلا أعد همته تامة، مثل المحدث فاته الفقه، والفقيه فاته الحديث، فلا أرى الرضا بنقصان من العلوم إلا حادثا عن نقص الهمة. ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم فأتوق إلى ورع بشر الحافي وزهادة معروف الكرخي، وهذا، مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ومعاشرتهم، بعيد! ثم إني أروم الغنى عن الخلق وأستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم مانع من الكسب، وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية. ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد، كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخلفان نائبين عني بعد التلف، وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد. ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال، ثم لو حصل فرق جمع الهمة! وكذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم والمشارب، فإنه متعود للترفه واللطف، وفي قلة المال مانع، وكل ذلك جمع بين أضاد! ولقد رأيت أقواما يصفون علو هممهم، فتأملتها فإذا بها في فن واحد، ولا يبالون بالنقص فيما هو أهم، قال الرضي: ولكل جسم في النحول بلية ???وبلاء جسمي من تفاوت همتي فنظرت فإذا غاية أمله الإمارة. علو الهمة يحقق الغايات وكان أبو مسلم الخرساني في حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له في ذلك، فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفس تتوق إلى معالي الأمور، مع عيش كعيش الهمج الرعاع! قيل: فما الذي يبرد غليلك؟ قال: الظفر بالملك، قيل: فاطلبه، قال: لا يطلب إلا بالأهوال! قيل: فاركب الأهوال، قال: العقل مانع! قيل: فما تصنع؟ قال: سأجعل من عقلي جهلا، وأحاول به خطرا لا ينال إلا بالجهل! وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به، فإن الخمول أخو العدم. فنظرت إلى حال هذا المسكين، فإذا هو قد ضيع أهم المهمات، وهو جانب الآخرة، وانتصب في طلب الولايات، فكم فتك وقتل؟! حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا، ثم لم يتنعم في ذلك غير ثماني سنين! ثم اغتيل ونسي تدبير العقل! فقتل ومضى إلى الآخرة على أقبح حال. فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا؟ وأنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب، ولا أن يؤثر في علمي ولا في عملي. فواقلقي من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع، مع إعادة العلم وشغل القلب بالتصانيف، وتحصيل ما يلائم من المطاعم! وواأسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم! ويا كدر الورع مع طلب ما لابد منه للعائلة! غير أني قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي، لأن علو الهمة إنما هو لطلب المعالي المقربة إلى الحق عز وجل، وربما كانت الحيرة في الطلب دليلا إلى المقصود، وها أنا احفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة، فإن بلغ همي مراده ، وإلا فنية المؤمن أبلغ من عمله. واللذات كلها حاصلة بين حسي وعقلي ، فنهاية اللذات الحسية وأعلاها: النكاح، وغاية اللذات العقلية العلم، فمن حصلت له الغايتان في الدنيا فقد نال النهاية. وأنا أرشد الطالب إلى أعلى المطلوبين، غير أن للطالب المرزوق علامة، وهو أن يكون مرزوقا علو الهمة، وهذه الهمة تولد مع الطفل، فتراه من زمن طفولته يطلب معالي الأمور، كما يروى في الحديث أنه كان لعبد المطلب مفرش في الحجر- بجوار الكعبة المعظمة- فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي وهو طفل فيجلس عليه، فيقول عبد المطلب: إن لابني هذا شأنا. الهمة في طلب العلم فإن قال قائل: فإذا كانت لي همة، ولم أرزق ما أطلب، فما الحيلة؟ فالجواب أنه إذا امتنع الرزق من نوع لم يمتنع من نوع آخر. ثم من البعيد أن يرزقك همة ولا يعينك، فانظر في حالك، فلعله أعطاك شيئا ما شكرته! أو ابتلاك بشيء من الهوى ما صبرت عنه! واعلم أنه ربما زوى عنك من لذات الدنيا كثيرا، ليؤثرك بلذات العلم، فإنك ضعيف ربما لا تقوى على الجمع، فهو أعلم بما يصلحك. وأما ما أردت شرحه لك، فإن الشاب المبتدئ طلب العلم، ينبغي له أن يأخذ من كل علم طرفا، ويجعل علم الفقه: الأهم، ولا يقصر في معرفة النقل- أي المنقولات من الأحاديث والسير والأخبار-، فبه يتبين سير الكاملين، وإذا رزق فصاحة من حيث الوضع- يعني اللغة والمنطق-، ثم أضيف إليها معرفة اللغة والنحو، فقد شحذت شفرة لسانه على أجود مسن. ومتى أدى العلم لمعرفة الحق، وخدمة الله عز وجل فتحت له أبواب لا تفتح لغيره. وقد غمني في هذا الزمان- القرن السادس- أن العلماء لتقصيرهم في العلم صاروا كالعامة! وإذا مر بهم حديث موضوع قالوا: قد روي!! والبكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انتهى. نقلا من كتاب صفحات مشرقة من صبر العلماء على طلب العلم ---------------------------------- (1) يستفاد من هذا النص أن لفظ (عائلة) بمعنى الأسرة استعمال قديم من القرن السادس وأذكر أني رأيته في كلام الإمام الغزالي في المستصفى من علم الأصول فهو معروف الاستعمال في القرن الخامس وسيأتي أيضا في كلام ابن الخاضبة المتوفى سنة489 في الخبر 204، كما جاء في كلام الأمير أسامة بن منقذ المتوفى سنة584 في كتابه الاعتبار ص174.