الخالة صفية (قصة قصيرة)

ضاق صدري، وشرعت الأشياء من حولي تلاحق بعضها في دوران سريع، ركزت بصري في وجهها لحظة، قبل أن تنطلق العبارات من فمي انطلاق الحمم من فوهة بركان ثائر! ـ ألم أقل لك ليلة البارحة امنعيه من الذهاب عندها؟! يجب أن تعرفي جيدا أن تحملي لهذه القضية قد تجاوز كل الحدود، ولقد آن الأوان لكي أواجه الموقف شخصيا مادمت تعتبرين الأمر بسيطا، ولايستدعي أي معالجة حاسمة.. ضربت جبيني بعنف وأنا أذرع الحجرة جيئة وذهابا.. ولما رانت فترة صمت قالت لي في توسل: ـ أرجوك يامصطفى.. اجلس أولا وبعد ذلك فكر بروية في مخرج له.. ـ لاتفكير ولاتروي لقد نفد صبري، ولكن الذنب ليس ذنبه، وإنما ذنبك أنت التي تسمحين له بذلك، لا بل تأخذينه من يده، وتوصلينه راضية طائعة. قاطعتني وفي صوتها هذه المرة حشرجة: اتق الله يارجل ألم أقل لك مرارا إنها هي التي تطرق الباب في الوقت المحدد، حتى إنه أصبح ينتظر طرقاتها على أحر من الجمر. ـ حتى ولو طرقت الباب.. أليس في استطاعتك أن تقولي لها، إنه متعب.. إنه نائم... إنه... ابتسمت، حركت رأسها ثم قالت: أتقول لي صراحة، اكذبي، ولاتخافي بعد ذلك لومة لائم؟!. دارت عيناي في محجريهما، وأنا أبحث عن تبرير لما طلبت منها. ولما عجزت عن ذلك، جلست، دعوتها هي الأخرى إلى الجلوس، خفت ثائرتي، وحالفني الكلام من جديد: اسمعي ياحليمة، ماطلبته منك هو أن تحاولي صرفه عن الذهاب عندها، بهذه الوسيلة أو تلك.. لأن الزمام يازوجتي العزيزة، يوشك أن تفلت، وحينها سنقف مكتوفي الأيدي.. ـ بالله عليك ماذا تريد مني أن أفعل مع امرأة في مثل سن أمي أو أكثر.. امرأة تحب ابننا عثمان، وتدعوه من باب الحنان والعطف، ليقضي في صحبتها سويعة، أو مايقل عنها... ضربت بجمع يدي على المنضدة، وقد عادت الأشياء من حولي إلى الدوران: اسمعي ياامرأة فالمسألة ليست دعوة حب وعطف أو غيرها من الترهات التي تتحدثين عنها، فالأمر تفاقم، أسمعت تفاقم ليسقط ابننا عثمان في.....؟! هممت بالاسترسال في كلامي إلا أن رفع أذان صلاة الظهر أوقفني، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم.. استغفرت العلي القدير.. توضأت، وقبل أن أخرج قلت في رقة هذه المرة: سنواصل الحديث.. مرت قرابة العشرين دقيقة حينما رجعت من رحاب بيت الله.. وجدتها قد أدت الصلاة، وراحت تضع الصحون على مائدة الأكل.. جلست، وذهني يبحث في جدية عن حل لهذه المعضلة التي طرقتنا بدون سابق إنذار.. شرعنا نأكل، فساد الصمت بريهة قبل أن أبدأ الحوار من حيث انتهيت: اسمعي ياحليمة قلت لك قبل الأذان بأن المسألة، ليست أن تدعوه ـ ذكريني باسمها ـ آه الخالة صفية، قلت ليست أن تدعوه، وتحبه وتعطف عليه، لا ليس هذا مايقلق راحتي، بل ما أصبح يفزعني حقا هو هذا الخوف الشديد الذي أضحى يملك على ابننا نفسه.. ألم تسمعيه بالأمس. وكذا أمس الأول ماذا قال عن الشارع وعن خطره وخطر السيارات والحوادث والدم.. فأعتقد أنك أدرى بهذا الخوف الذي يسيطر على مجامع قلبه.. فهل تظنين أن طفلا يضطرب لسماع صوت شاحنة أو حافلة أو سيارة، وأن طفلا أصبح يعتبر الشارع نهرا في أوج فيضانه، هل تظنين أن مثل هذا الطفل سيقبل على المدرسة فيما يأتي من الأيام ببهجة وفرح كما يقبل عليها الصغار؟! باختصار إن الخالة صفية ياامرأة قد زرعت في قلب عزيزنا عثمان كل ضروب الهلع والخوف القاتل من خلال ما تحكي له من حكايات.. نظرت إليها فإذا لون وجهها قد تغير، وسرعان ماقالت بصوت هادئ: وما العمل يامصطفى؟!. ـ هذا ماينبغي أن تفكري في إيجاد حل له.. لا بل الحل موجود وبسيط، امنعيه من الذهاب عندها حتى ولو انتظرت أمام الباب ساعة من الزمان.. لعلها تعدل عن التعلق به. امتدت يدها إلى كأس الماء، شربت، ومالبثت أن قالت: إن هذا ليس حلا معقولا. وضعت الملعقة من يدي، وفي حنق قلت: وماذا تريدين منا أن نفعل؟! أنبيع منزلنا، ونرحل من هذا الحي مادامت الخالة صفية وزوجها قد سكنا بجوارنا بصفة نهائية؟! ابتسمت.. أطرقت لحظة، وأردفت تقول: لم أقل هذا، ولكن ماأردت قوله هو أن نحسن الخروج من هذا المأزق بدون أن نسيء إلى هذه المرأة الطيبة التي لم ألاحظ على تصرفاتها أي شيء مشين، وفضلا عن ذلك فهي تحب عثمان حب الجدة لحفيدها ضحكت ملء فمي.. حركت رأسي، وأنا أقول: حب ممزوج بخوف قاتل من الشارع، من السيارات من الدراجات وربما كل وسائل النقل الأخرى : امتدت يدي إلى كأس الماء.. شربت ثم التفت نحوها: اسمعي ياحليمة، إذا كنت عاجزة عن إنقاذ فلذة كبدك، فأنا لن أستسلم لهذا العجز الذي أخضعك لسلطانه، لذلك فقبل أن أعود إلى العمل سأضع حدا لهذه المشكلة.. سأطرق بابها وأقول لها على مسمع من زوجها من فضلك دعي ابننا يعيش طفولته.. لقد أسأت إلى تربيته.. لقد.. أوقفتني مستعطفة: أبلغت بك القساوة إلى هذا الحد؟!! هل تعتبرين تخليصي لابني من إسار هذه الورطة قساوة؟! ـ أن تخلصه نعم، لكن أن تخدش أحاسيس امرأة وعواطفها، امرأة تكن لك ولابنك المحبة والاحترام، فهذا ما لايقبله إنسان يحب الله ورسوله. أطرقت برهة، وقد تمردت علي الكلمات، فاسترسلت تقول: أنا لا أخالفك في كون ابننا يجب أن يتخلص من قبضة هذا الخوف القاتل! ولكن بالتي هي أحسن!! تلعثمت قليلا قبل أن أرد عليها: وكيف السبيل إلى الخروج من هذا النفق المعتم؟! ـ كل شيء يمكن أن يتم بسلام إذا تخلصت من قبضة هذا الغضب الذي يلفك، فالأفعال ياعزيزي يعكر صفو التفكير الهادئ.. فهدئ إذا من روعك.. واسمع الذي أقترح عليك. صرخت: خلصيني. هاتي ماعندك!. ـ ألم أقل لك إن الأمور لاتحل بالغضب.. على أي حال ما أقترحه عليك هو أن تحاول الاتصال بزوج الخالة صفية، وتطلعه بطريقة غير مباشرة على المسألة، وبعد ذلك فهو سيتكفل بالحديث إلى زوجته عوض أن نواجهها نحن فنسيء إلى علاقتنا معها. ضحكت ملء فمي، وأنا أقول حسبت أن عينيك وقعتا على شعاع وسط الظلمة التي تكتنف هذا النفق الذي حوصرنا وسطه، فإذا بك، وباقتراحك السخيف تضفين إلى تلك الظلمة قتامة فوق قتامة.. فهل تريدين مني ياعاقلة أن أحدث زوجا في شأن مسألة تهم زوجته.. فبالله عليك من يطرق الباب في الصباح والمساء ثم ينادي على عثمان.. الخالة صفية أم زوجها عبد الجبار؟!. رجتني أن أتوقف. التفت نحوها، وأنا أقول: هذا حل مرفوض أساسا، ولامجال لمناقشته!. ـ دعني أولا أشرح لك قصدي.. فما أردت قوله هو أن تحدثه في شأن ما أصبح يعاني منه عثمان في هذه الأيام، وهو بالطبع سيطلع زوجته، فإذا كانت حقيقة تحب ابننا، فإنها لا محالة ستعدل عن مثل تلك الحكايات فحاول إذا أن تحدثه، فإذا تحقق المراد فبها ونعمت، وإلا بحثنا عن حل آخر.. المهم أن نخلص عثمان من قبضة هذا الخوف.. عبثت أصابعي بالشعيرات القريبة من أذني، وتعلقت عيناي بسماء الحجرة لحظة من الزمان.. طال انتظارها لجوابي فقالت: ماردك؟! انتفضت من مكاني وأنا أقول: خير البر عاجله، سأطرق الباب الآن. ابتسمت، اقتربت مني أكثر ثم قالت: إنك سجين غضب مقيت؟! اسمع يامصطفى لاداعي إلى العجلة، وعليك أن تختار أنسب الظروف لإطلاعه على جلية الأمر لذلك فمن رأيي أن نعزمهما هذا المساء، وبعد ذلك لك متسع من الوقت لكي تحدثه على انفراد، وتخبره بكل التفاصيل.. ساد الصمت.. وبدأت من جديد تتطلع إلى ردي.. طال انتظارها حينما قالت: أنا في انتظار ردك. مررت يدي على جبيني قبل أن أقول: اتفقنا، ونتمنى أن تأتي هذه الضيافة بالنتيجة المرجوة.. أعلنت الساعة تمام الثانية والنصف.. هممت بالانصراف إلى العمل عندما طرقت الخالة صفية الباب، فتحت حليمة، فدخل عثمان فرحا، ضممته إلى صدري، غمرت خديه قبلا، أوشكت أن أبرح المنزل لما أوقفني قائلا في كلمات متقطعة: أبي لاتقترب من الشارع.. السيارات تقتل.. الشاحنات تقتل.. الدراجات تقتل.. نظرت إليه، عبثت أصابعي بشعره الناعم قبل أن تمتد إلى خدي لتمسح دمعتين قفزتا رغما عني.. في الليل جلست إلى جانب السيد عبدالجبار حدثني عن أيام شبابه.. عن عمله.. عن حياة المتقاعد.. استمعت إليه، وإن كان ذهني قد راح يبحث بهمة لاتفتر عن مقدمة مناسبة للحديث عن جوهر قضيتنا.. نظرت إلى الساعة أكثر من مرة.. حاولت أن أطرح الموضوع، لكنني كلما تهيأت لذلك رق حديثه، ونفذ إلى أعماقي، وشغلني عن مشكلة ابني.. وفي الوقت الذي أوشكت فيه أن أستسلم لفشلي في إطلاع السيد عبدالجبار على فحوى المسألة، تنامى إلى سمعينا نداء الخالة صفية على عثمان الذي كان يلعب في فناء الدار، فالتفت نحوي، قال: لا يمكنك يا ابني العزيز أن تتصور حب صفية لعثمان، وأصدقك القول، فقد كان لإقامتنا بجواركم كبير الأثر على صحة زوجتي. أردت أن أقاطعه قائلا: ولكنها ملأت نفسه خوفا. إلا أن كلامه الهادئ والمتواصل حال بيني وبين ذلك، فرحت أستمع له باهتمام: تخيل ياعزيزي مصطفى أنه مرت عليها سنوات متلاحقة لم يتخل عنها الحزن والغم، كما أنها لم تكن تبرح المنزل إلا لماما.. لقد كانت يا ابني صدمة عنيفة تلك التي تعرضنا لها.. كنا وقتها ننعم بالراحة في فترة الظهيرة، حينما دخلت ابنتنا أسماء التي تعيش الآن مع زوجها خارج الوطن، قلت دخلت علينا صحبة أحد أبناء الجيران، وهي تقول بصوت ممزوج بشهيق حاد: أخي الحسين صدمته سيارة.. كررت الصغيرة العبارة، وهي تلطم خديها، أما ابن الجيران فقد تسمرت قدماه واقتصر على متابعة حركاتها فاغر الفم، دامع العينين.. آه ! لقد فجعنا ذلك السائق الأرعن في ابننا الحسين فأحال سنوات من حياتنا سوادا كالحا!! حاول أن يواصل حديثه، غير أن الكلمات خانته، وفي بطء امتدت يده إلى جيبه، أخرج منديلا، جفف دموعه، مسحت أنا الآخر عيني، قبل أن أقول له بصوت خفيض: أستغفر الله.. كل من عليها فان.. أستغفر الله، لعن الشيطان.. احتسى جرعة من كأس الشاي الموضوع أمامه، بعدها شرع يسألني عن أحوالي في العمل، فقدم لي نصائح كثيرة.. دعا لي بالخير وأثناء مغادرته لمنزلنا صحبة زوجته الخالة صفية، فوجئت زوجتي حليمة عندما ناديت عثمان، ومالبثت أن قلت له في جدية: حينما تناديك الخالة صفية فلا تتوان في الذهاب عندها.. أسمعت؟!. كرت الأيام، وفي أثرها الليالي، كان عثمان خلالها يزور الخالة صفية كل صباح، أما في المساء وبعد عودتي من العمل فيصحبني إلى قلب المدينة فنقطع الشوارع المزدحمة، ونمر أمام السيارات المنتظرة لإشارة المرور، فيحدثني عن الخالة صفية دون أن يلوح في سمائه شيء اسمه الخوف من وسائل النقل.... نشر في مجلة (الأدب الإسلامي ) عدد (29)بتاريخ (1422هـ)