فكر مابعد الحداثة.. مصطلح فارغ لمضمون مغاير

من العبارات الرائجة في الساحة الفكرية العربية في هذه الأيام مفهوم مابعد الحداثة الذي يستخدم على نطاق واسع في الدراسات الفكرية والأدبية والنقدية، وتستند إليه اتجاهات فلسفية متزايدة الحضور والحظوة. كما أن بعض الأوساط والمؤسسات الثقافية تضطلع بدور المنبر لهذا الاتجاه الجديد، ومنها بعض الهيئات والمنتديات الفاعلة التي تصدر منشورات وأدبيات رائجة. بيد أن هذا المفهوم نادرا ماخضع للتمحيص والتدقيق، بل غالبا ما يستخدم بغموض وارتجال للتعبير عن دلالات متباينة متغايرة بحيث يكون تعبير مابعد الحداثة مرادفا أحيانا لفكر الاختلاف (في الأدبيات الفلسفية) أو مرادفا لظاهرة العولمة، أو تجسيدا لأفق وحضارة مختلفة عن العصر الصناعي (كما تفيد بعض الدراسات المستقبلية). وقد تذهب بعض المقاربات التي استخدم المقولة تبيانا لإفلاس الحضارة الغربية ودليلا على قرب انهيارها وتقوض أركانها (بعض الكتابات الإسلامية الذائعة). وليس من همنا مناقشة هذه الأطروحات. وإنما سنكتفي بالإشارة إلى بعض سياقات توظيف هذا المصطلح الذي يحتاج لوقفة تدقيق ونظر. ولنذكر بدءا الارتباط الوثيق بين هذا المصطلح ومفهوم الحداثة الذي يتحدد وفق مرجعيته من حيث هو تجاوز له. ولذا فإن فكر ما بعد الحداثة يتأسس على القطيعة مع الفضاء الدلالي والنظري للحداثة، أي فكر الأنوار بمحطاته وروافده المعروفة. وكما هو معروف فإن هذا الفكر يقوم على مرتكزات أربعة رئيسية: 1ـ المقاييس العلمية الحديثة، أي التصور الرياضي ـ التجريبي للوقائع الطبيعية الذي أفضى إلى ظاهرة التقنية. وما سمحت به من تهيئة الأرضية التحتية للثورة الصناعية القائمة على الاكتشافات الفيزيائية. 2ـ انبثاق القيم الإنسانية التي عوضت التقاليد الكنسية الوسيطة، وأعادت بناء الحقل السياسي من منظور الإرادة البشرية الحرة، بحيث يصبح للإنسان المواطن حق اختيار ممثله وحاكمه دون إكراه ولاتدخل، مما فسح المجال أمام النظم الديمقراطية والثورات الدستورية والشعبية التي عرفتها أوروبا والولايات المتحدة. 3ـ إعادة بناء النظام المعرفي على أسس عقلانية صلبة تتجاوز الحيز الفلسفي الضيق والتجربة العلمية بل تشكل نموذج ومحور مختلف التشكيلات والممارسات الخطابية. ونعني هنا بعبارة عقلانية أولوية الذات المفكرة في المسار المعرفي، وتأكيد قدرة العقل الأدواتي على امتلاك حقائق الظواهر من خلال منهج يقوم على التحليل المفهومي والبناء الرياضي المحكم. ولا شك أن هذه المرتكزات الثلاثة هي التي تعرضت للمساءلة والنقد في الفكر الغربي المدعو تجاوزا بفكر ما بعد الحداثة. وهو توصيف بالسلب لغياب الانسجام بين المقاربات التي تصنف عادة في خانة هذا الفكر. ومن بين المقاربات الأبستمولوجيات ما بعد الوضعية التي قوضت مصادرة الاكتشاف التجريبي لحقائق الطبيعة عن طريق التحقق والاختبار بالاستناد إلى الاكتشافات العلمية الجديدة التي بينت دور الاختراع والخيال في البناءات العلمية التي هي تصرف في الطبيعة وليس استكناها لها. فالعلم من هذا المنظور لايصل إلى حقائق يقينية ولا يتحرى الاتساق مع نظام الأشياء، وإنما يقدم فرضيات تكون فقط ملائمة وناجعة، وليست صائبة أوخاطئة. كما تنتمي إلى هذا الاتجاه فلسفات الاختلاف التي ظهرت في سياق التأملات النيتشوية ـ الهايدغرية، وسعت إلى تقويض النسق الأنطولوجي بالخروج على فكرة تطابق الوجود والعقل التي تشكل عمق القول الفلسفي الحديث المتأسس على مقاييس الذاتية. ولاشك أن لهذه الفلسفات الدور المحوري في رواج ما يدعى بفكرة ما بعد الحداثة، خصوصا بعد صدور الترجمات العربية لبعض أعمال هايدغر وفوكو ودريدا. وقد أظهرت لقاءات دريدا مع المثقفين المصريين مطلع العام الجاري على هامش معرض القاهرة للكتاب حجم افتتان الشارع الثقافي العربي بهذا الصنف من الفكر الذي طغى على الساحة الفلسفية الفرنسية في نهاية الستينات. ومن امتدادات هذا التوجه النظريات النقدية الجديدة المتأثرة بالدرس اللساني التي أعادت النظر في مفهوم المعنى ودلالة النص من منظور إعادة الاعتبار للكتابة على حساب القول، وتأكيد ثراء واتساع الدلالات والتبشير بـموت المؤلف وتقويض مفهوم الإبداع. ومن منابر هذه المقاييس الأدبية ـ النقدية دوريات معروفة منتشرة كمجلة فصول المصرية والفكر العربي المعاصر اللبنانية، وغيرهما كثير في أقطار المغرب العربي التي انطلق منها هذا التيار. أما الدراسات المستقبلية التي تمثل رافدا آخر من روافد فكر ما بعد الحداثة فهي غريبة عن هذا المنحنى، ترتكز على الأبحاث الاقتصادية والجيو استراتيجية، وتستنتج من التحولات العميقة التي مست في العقدين الأخيرين شكل النظام الدولي ونموذج الدولة القومية والمنظومة الاقتصادية العالمية والمرور إلى عهد جديد يختلف جذريا عن العصر الحديث من حيث المقومات السياسية والتنظيمية والاستراتيجية. ولاشك أن هوس الخطاب العربي الراهن بظاهرة العولمة يندرج في هذا الباب، مما يترجمه سيل الكتابات المتواصلة حول الموضوع، وإن كان التأثر هذه المرة بالأدبيات المستقبلية الأمريكية وليس بالدراسات الفلسفية والأدبية. إن مانريد أن نخلص إليه من هذه المعطيات التحليلية الأولية هو أن فكر مابعد الحداثة الذي يتم الترويج له اليوم في الساحة العربية لا يمثل اتجاها فكريا رصينا ومنسجما، ولايخرج في غالب الأحيان عن ترجمة واستنساخ مقولات واصطلاحات ونظريات متداولة منذ عقود في الثقافة الغربية السائدة وخصوصا الفرنسية منها. ولعل الإشكال الذي يستحق عناية المفكر العربي هو التفكير المعمق والجاد حول عوائق المشروع التحديثي العربي المتعثر، وكبوة وإخفاق حركة الإصلاح والتجديد بمختلف اتجاهاتها، بدل نشر أفكار برزت في سياقات وأرضيات مغايرة. ?جريدة الشرق الأوسط الأحد 8102000م العدد 7685 صفحة 9 نشر في مجلة (الأدب الإسلامي ) عدد (29)بتاريخ (1422هـ)