واحة السلام

تحرك الفتى مسرعا إلى المحطة القريبة من داره حيث يستقل من هناك الحافلة كل صباح إلى مدرسته التي تبعد عن بيته مسافة لا تقطعها الأقدام.. ولكن هذا الصباح لم يكن ككل صباح انطوى منذ بدء العام!.. اليوم يحس أن جسمه الفارع الذي ينحني أكثر الأيام همودا ونعاسا، يحسه هذا الصباح منفلتا من قيوده، يكاد خطوه لا يلمس الأرض، قلبه الطافح بالفرج يكاد يسبق خطوه الواسع فيندفع بصدره إلى أمام، فما هي إلا دقائق حتى يلتقي بصديقه الحميم عبد الله، وهناك، سوف يزف إليه هذا الخبر السعيد!... هو أسعد خبر تلقاه في حياته كلها كأنها مأساته الخاصة، يعيشانها معا يوما بيوم، وهو يقص عليه ما دار منذ افترقا في اليوم السابق.. يستمع إليه الدقائق والساعات أحيانا وهما يستذكران دروسهما معا في الأمسيات الطويلة، وينساب الدمع من مآقيهما معا وكأنهما توأمان تربط بين حياتهما آصرة لا تنفصم!.. لسوف يلقي إليه اليوم بخبر هذا الحدث الهائل الذي ظلا معا يتلهفان على أن يقدره الله فيجمع به شمل هذه الأسرة التي تعذبت كل تلك السنوات!... لسوف يقفز في مكانه للفرحة المفاجئة، بل لسوف يبكي من شدة المفاجأة التي لم يكن ينتظرها، كما فعل هو، فحتى الأمس القريب كانت الأبواب كلها في قلبه مغلقة!... كانا يتبادلان حديثا يقطر أسى ويأسا، وهو يقص عليه كيف أن أمه قد اعتزلته تماما هو وأباه، وأنها منذ أسابيع كثيرة تغلق عليها باب حجرتها بمجرد أن تدخل الدار عائدة من عملها حتى تخرج منها صباح اليوم التالي، دون أن تتلفظ بكلمة واحدة، حتى دون بسمة التحية المقتضبة التي كانت تلقيها عليهما أحيانا، منذ أن تفرقت بهم السبل!.. كيف سيكون عجبه إذن حين يحكي له ما حدث هذا الصباح؟... لسوف يخر ساجدا لله كما فعل هو قبل ساعة حين دخل حجرته وأغلق بابها ثم خر ساجدا!.. عجبا!.. لماذا أقفل إذن باب حجرته؟!... عجبا؛ فمازال الخوف يملأ جوانحه رغم حقيقة المفاجأة!.. نعم، مازال يخافها في أعماقه ويتشبث بإرضائها رغم كل شيء.. رغم غضبها القاسي الذي أذاقته منه الكثير منذ أعلن عن هويته الجديدة، والذي تفاقم وتفاقم مع الوقت حتى غدا بطشا لقي منه الأمرين!.. هل يكفيه أن يسجد لله تلك السجدة الشاكرة؟.. كلا!.. فلسوف يتعبد لله ويعبد ما امتد به الأجل.. لسوف يعيش لدينه الجديد كما علمهم أبو عبد الله في جلساتهم الكثيرة معه.. لسوف يعمل ويعمل، ويجاهد فلا يكف، لسوف يتفوق في دراسته حتى يكون طليعة أينما حل، ولسوف يجعل حياته كلها نشاطا وحركة لرفع راية هذا الدين.. لسوف يجعل حياته كلها موهوبة لربه، شكرا خالصا له، وقد رد عليه أباه، ثم رد له أمه أخيرا ولم يكن يأمل أبدا أن ذلك يكون!.. كانت قدماه تدلفان مسرعتين إلى موقف الحافلة وعيناه زائغتان تبحثان عن صديقه الحميم.. يا الله.. لماذا لم يحضر؟.. أم لعله قد وصل قبله فركب الحافلة التي فاتته، فلقد أخرته قصة هذا الصباح بكل ما حملت إليه من سعادة عن الحافلة التي توصله في موعده، لكن كيف، وقد تعود أن ينتظر أحدهما الآخر حتى لو تأخرا تأخرا سويا؟.. حتى لوحظ ذلك بين الزملاء، وحتى عجبوا لهذا التلازم بين الشابين رغم ما بينهما من فارق اللون والجنس!.. صحيح أن عبد الله ليس أسود اللون ولكنه ملون على كل حال.. فأما هو، فهو ناصع البياض عريق في أوروبيته!.. لكم هم تافهون هؤلاء الزملاء.. إنهم لا يحفلون إلا بتلك الأشياء التافهة التي لا تغير من الحق شيئا!.. فما هي أسرة عبد الله كلها عداه وأبيه، ها هي كلها تمتلك بشرة بيضاء مثله ومثل أكثر الأوروبيين بياضا فكيف يكون حسابها لديهم؟!.. إن هؤلاء الزملاء لن يستطيع خيالهم أن يصل إلى حقيقة ما يربط قلبه بعبد الله - ذلك الإنسان الرائع!.. حين وصلت الحافلة إلى محطتها الأخيرة، انتزعه من أفكاره صوت السائق وهو يعلن نهاية الخط، بعد أن لم يبق في الحافلة غيره، فانتفض واقفا تسبقه قدماه إلى الباب ليهبط، ثم ما لبثتا أن انطلقتا جريا لتلحقا باب مدرسته القريب ترى سيجد عبد الله في الداخل منتظرا يترقب مجيئه؟ .. كلا.. لا أحد.. فالصمت يغمر الفناء.. لقد دخل الجمع إلى الفصول إلا هو، فلعلها تمر بسلام!. حين استقبلته نظرات المعلم الغاضبة وكلماته المشوبة بالسخرية، كانت عيناه ترمقان، بقلق مكان صديقه الفارغ بجواره!.. ارتبك قليلا تلعثم بالكلمات وهو يجيب معتذرا عن تأخره: - آسف يا أستاذ.. كان لدي في الصباح بعض الظروف التي حالت بيني وبين اللحاق بالحافلة فاضطررت إلى أخذ التي تليها. - حسنا يا فرانسوا.. ظننت أنك سوف تغيب مادام توأمك قد غاب اليوم!.. امتعض قليلا للهجة أستاذه الساخرة، ثم أجاب بعد لحظة صمت: - لم أعرف أنه سوف يغيب! - على كل.. لم يفتك الكثير.. اجلس مكانك وركز حتى تعوض ما فاتك. كانت أفكاره تتشتت فلا يملك أن يشدها إلى حديث المعلم؛ وإن كانت عيناه تلتقطان بسرعة كل ما هو مكتوب على السبورة، ترى لماذا غاب عبد الله؟.. ترى هل حدث له ما يسيء في يوم هو أحوج ما يكون فيه إليه لينبئه بالخبر وليتبادلا معا فرحتهما الكبرى! فرانسوا شاب فرنسي في السابعة عشرة من عمره، سمته الصبوح المفعم بالحيوية يميزه عن الكثيرين من زملاء فصله، وتفوقه الدراسي يجعله محط أنظار الزملاء والمدرسين أيضا، فأما الزميلات فهو محط آمالهن جميعا، يتسابقن إلى الوصول إلى قلبه وإلى اهتمامه؛ ويحزنهن أن يجدن الطريق إليه مغلقا، رغم لطفه الشديد ودماثة معاملته يتهامسن بينهن حول تلك المجهولة السعيدة التي تملك قلبه!.. أما أشد ما يقلق أساتذته فهو صداقته الحميمة لعبد الله وملازمته إياه، فهو في نظرهم ذو شخصية وذكاء يؤهله لمستقبل مرموق، وهم يخشون عليه من ذلك النقاش الذي يدور أحيانا بينه وبين زميله فيراقبونه مشفقين، ويلقون إليه بين الحين والحين بتحذيراتهم الساخرة مرة والمشفقة مرات!.. وإن أشد ما يزعجهم في عبد الله لهو شخصيته الواثقة المستعلية، وأدبه الرفيع وتفوقه الدراسي الملحوظ الذي يجعله في أكثر الأوقات أول الفصل! لم تكن علاقته بعبد الله من نوع تهزه الكلمات المشفقة المحذرة، أو تزلزله التلميحات الساخرة، فلقد توطدت لأسباب أعمق من كل تلك الكلمات؛ ولقد توغلت في مشاعره، ولقد امتدت في عروق طفولته، وحفرت مجراها في توهجات صباه ومطلع شبابه؛ ولقد امتلأ بها عقله وضميره قبل قلبه وتطلعات أحلامه؛ ولقد ارتبطت بها تطلعات روحه وخيوط مستقبله. كانا في الثامنة من عمريهما حين ضمهما أحد فصول المرحلة الأولى في مدرسة الحي، وكان عبد الله جديدا على الحي وعلى مدرسته، وجهه الأسمر يكمل غربته الجديدة في هذا العالم، ولكن ذكاءه الحاد لفت الأنظار إليه بسرعة، وإجاباته الصحيحة السريعة على أسئلة أساتذته جعلت منه منافسا خطيرا لفرانسوا، وقد كان أول فصله بغير منافس في عاميه السابقين.. حين جمعتهما مائدة طعام الغداء المدرسية متجاورين لأول مرة، لاحظ فرانسوا أن عبد الله لم يأكل اللحم المقدم لهم، وحين سأله لم، أجاب بصراحة وهدوء أنه لا يأكل لحم الخنزير لأنه محرم عند المسلمين، ولأنه أيضا حيوان قذر! ضايقت فرانسوا هذه الصراحة التي تفتقر إلى المجاملة وقد رآه يأكل هذا اللحم ويستلذه، ولكن أعجبته رغم ذلك شجاعة زميله وهو يعلن صراحة عن إسلامه؛ وقد تعود من زملائه المسلمين مداراتهم لدينهم، بل والتنصل منه في بعض الأحيان!.. وحتى الذين لا يأكلون هذا اللحم يفعلون ذلك خلسة خوفا من عقاب المشرفة أو اتقاء لسخرية الزملاء. حين عاد فرانسوا إلى بيته سأل أمه عن الخنزير، وهل هو حقا حيوان قذر، كما قال له عبد الله، فأجابته بانفعال أن عبد الله وأهله هم القذرون، وأنهم معقدون ومتأخرون، ونصحته أن يبتعد عنه فلا يتكلم معه في شيء ولا يجلس بجواره! كان في طفولته تلك يرهب أمه.. يخشى أن يخالف أيا من تعليماتها وأوامرها، ويخيفه صوتها الهادر بالغضب، الصارخ في مواجهة أي مخالفة لا تعجبها حتى من أبيه؛ وكان يلوذ بأبيه الهادئ السمت الذي يواجه ثوراتها بصمت في كثير من الأحيان؛ ولذلك فقد توغلت كلماتها الحادة عن زميله في عمق مخاوفه، فحاول أن يتجنب الحديث معه قدر ما تسمح به ظروف الزمالة؛ ولكن عقله الصغير ظل يراقبه من بعيد فيعمق في حسه سؤال حائر لا يستطيع أن يفضي به لأمه: لماذا تقول أمه عنه وعن أهله ما تقول.. وهي لا تعرفهم؟!.. وهو يرى نظافة عبد الله البادية في ملابسه وفي كل شيء فيه.. وهو يراقب تعامله مع الزملاء ويحب تلاطفه في الحديث معهم وكذلك طبيعته الفكهة ولين أخلاقه، ويعجبه ذكاؤه الذي ينافسه وإ ن كان كثيرا ما يضايقه!.. لماذا يا ترى تكره أمه الناس دون أن يقدموا لها أي إساءة؟.. أتراها تحب الخنزير إلى هذه الدرجة؟!. في يوم، وجد نفسه قبالة هذا الحيوان الذي أحبه من قبل، وامتلأت نفسه بدفاع أمه عنه، وقد كان في رحلة مع فصله إلى مزرعة للحيوانات في إحدى القرى.. لقد فاجأه منظره وأهاج في نفسه الخوف والاشمئزاز؟ وفي حديث الأستاذ المشرف وهو يشرح بعض المعلومات عن حيوانات المزرعة حذرهم من الاقتراب منه، وقال لهم إنه حيوان شرير؛ وإنه شديد القذارة، وإن من طبعه أن يأكل الأوساخ حين يجدها، وبسبب من ذلك يسارع المربون له إلى تنظيف حظيرته من فضلاته قبل أن يلتهمها!. صدمته الكلمات كما صدمته شراسة نظرات الحيوان وفمه الطويل الذي لا يكف عن التنقيب في تراب المزرعة المشرب بالبول، وقفزت إلى ذاكرته كلمات أمه عن عبد الله وأهله، فبحثت عيناه عنه وسط الزملاء دون قصد، لمح وجهه مبتسما يصغي في هدوء إلى شرح الأستاذ المشرف.. لماذا تكرهه أمه دون أن تعرفه؟!.. أمن أجل هذا الحيوان الكريه؟!. حين عاد من رحلته قرر ألا يطعم لحم هذا الحيوان مرة أخرى!.. لكن ما أن أعلن عن قراره هذا حتى كانت ثورة أمه عارمة؛ وكان هجومها على عبد الله كاسحا!.. قالت له صارخة في وجهه: إياك أن ترافق عبد الله هذا أو تنساق وراءه.. وعبثا حاول أن يدافع عن نفسه أو يبرئ زميله من قراره دون جدوى! دفعته تلك الثورة الظالمة إلى الاقتراب أكثــر من عبدالله، فقرر أن يجاوره على مائدة الطعام كل غداء!.. أفضى إليه بقراره مقاطعة لحم الخنزير بعد أن رآه وسمع ما قال المشرف عنه؛ ثم أخذ يسأله ويستمع له في شغف وهو يدلي له بمعلوماته يحكي له من أين استقاها على رغم أنه لم يكن قد رأى الخنزير بعد! وبذلك انفتحت لهما أبواب حديث في أمور شتى! انطوى عامهما الدراسي، ثم فرقت بينهما عطلة الصيف الطويلة، ذهب هو مع أسرته إلى مصيف بعيدا عن العاصمة؛ وبقي عبد الله مع أسرته المتواضعة الدخل في بيتهم. وفي هدأة الأعصاب هناك، حاولت أمه أن تقربه إليها في جلسات حديث ودي على غير عادتها.. فلكم سمعها تهدر بالسخط عليه لأتفه سبب، معلنة على مسمعه أنه كان سببا في ربط حياتها بأبيه، بعد أن كانت على وشك التخلص منها قبل مجيئه!.. في هذا الحديث الودي حكت له الكثير عن هؤلاء المسلمين البرابرة، وحذرته من صداقته لعبد الله أو تصديق أي كلام يقوله ليفسد عليه دينه وخلقه وحياته!.. ولكم أثار ذلك من خوفه ولكم أثار أيضا من رغبته في معرفة كل شيء عن حياة هؤلاء المجهولين. ودارت دورة الزمن القصيرة فإذا هما معا من جديد في فصلهما الجديد وقد نما جسداهما بعض النماء، وقد اتسعت مداركهما لحديث أوسع مدى، وإذا هما جاران قد تلاصقت مقاعدهما، فلقد كانا أوائل فصلهما السابق. في غفلة منهما ترابط قلباهما بأواصر ود، لم يتبين فرانسوا وجودها كما تبينه يوم دق جرس الهاتف في حجرته وهو مريض، فإذا بصوت عبد الله يسأل عنه في لهفة واضحة النبرات، يطلب أن يطمئن عليه، يعرض كل مساعداته، ويبلغه أنه قد نسخ له كل ما فاته في غيابه وأنه على استعداد لتوصيله إليه إذا أراد، وعلى استعداد لأن يشرح له كل ما يغمض عليه منه! كيف؟!.. وزملاؤه من المقربين إليه لم يسأل عنه منهم أحد!.. ولم يعرض عليه أحد منهم مساعدة؟!.. لماذا يعرض عبد الله هذا العرض وهو المنافس له.. ولم يقدم إليه هو خدمة من قبل؟!. وجد فرانسوا مشاعره تهز قلبه بمحبة لعبد الله لا يملك دفعها، تجتاح كل حديث لأمه وكل تحذير!. منذ ذلك اليوم توثقت بينهما العرى، واعتاد فرانسوا الذي لم يستطع أن يدعو عبدالله إلى بيته، اعتاد أن يسعى هو إلى بيت عبد الله الأنيق رغم تواضعه، يستذكران معا، من دون أن يجرؤ على مكاشفة أبويه! هناك اكتشف ذلك العالم الجديد الذي طالما دفعه الفضول لأن يعرف حقيقته، وهناك ولدت في كيانه البذرة التي نمت فيما بعد وأينعت، ثم أثمرت هذه الوجهة التي يمتلئ بها اليوم قلبه وتقوم عليها حياته. أول شيء واجهه وغاص في قلبه هو ذلك السمت الجميل السمح الذي يحمله وجه أم عبد الله، ثم هذا الحنان الدافق الذي يشمل كل أحد في هذا البيت المتواضع... هذا الذي يحسه يفيض على الأسرة جميعها ويروي ظمأها.. وهو.. في بيته الواسع يصدم قلبه الجفاف والحرمان والظمأ!.. ساءل نفسه بحسرة لماذا هم محرومون من مثل هذه الحياة الندية؟ لماذا لا يجد من أمه ما يجده عبد الله في هذا البيت السعيد؟!. وتراءت له تفاصيل حياته المرهقة؛ هذا الشجار الذي لا يكف بين أبويه،ما ينتهي حتى يبدأ، حيث يظل هو أمامه حائرا مذهولا خائفا، وتلوذ أخته التي تكبره بست سنوات كاملة بحجرتها، أو تنطلق هاربة إلى صديقاتها، ويبقى هو في هذا العذاب مفردا!.. هذا الفزع الدائم من أن تتركهم أمهم وترحل إلى مكان بعيد كما تهدد في نهاية كل شجار!.. ثم هذا الطعام الروتيني المكرور الذي يصنعه كل فرد لنفسه حين يعود إلى البيت والكل بعيد؛ اللهم إلا مرة واحدة كل يوم أحد، وذلك في عطلتهم الأسبوعية، حين تتفرغ لهم فتهدي إليهم مائدة شهية يجتمعون عليها، ويظل قلبه هو راجفا خوفا من أن تهدد سعادتهم الصغيرة كلمة من هنا أو من هناك!. لماذا أعطاه الرب هذه الأسرة الصغيرة المعذبة، وحبا عبد الله هذه الأسرة الكبيرة السعيدة التي يجتمع شملها كل مساء يحيطها الحب والحنان.. والطعام الشهي!.. كل هؤلاء الإخوة يلعبون معا ويتسامرون، وهو مفرد وحده يعيش الساعات منطويا على نفسه تصدم قلبه الجدران والأثاث والتماثيل الجامدة!.. أما أخته التي تكبره كثيرا فلها عالمها وأصدقاؤها، فهي لا تعبأ به ولا تشاركه شيئا من دنياه!. كيف يكون ذلك هكذا؟.. ألم تقل له أمه مرارا إن الرب يحبهم هم ولا يحب هؤلاء؟! كان يسأل نفسه ويرهقه التساؤل، فيرتد السؤال إلى قلبه الصغير بلا جواب، وكان يسأل أباه فلا يجد جوابا مقنعا... فليس لدى أبيه سبب غير أن عمل أمه مهم ومرهق، ولذلك فإنها لا تستطيع أن تفعل غير هذا، وأنها لم تكن تملك أن تأتي له بإخوة كثيرين وإلا ما كانت تستطيع أن تبقى في عملها المهم هذا أو ترتقي فيه، وإن من الخير له أن يكون من أسرة قليلة العدد حتى يستطيع أن يستمتع بسعة العيش؛ ولولا كل هذا ما كانوا يملكون مثل هذا البيت الكبير الأنيق ولا هذا الدخل الذي يعيشون به في سعة، ولا كانوا يستطيعون الاستمتاع بعطلة الصيف الطويلة في أجمل المصايف ولا عطلة الشتاء التي يقضونها يستمتعون بالتزحلق على الجليد في جبال الثلوج!.. لكن شيئا من ذلك لم يكن يقنع قلبه الصغير الظامئ أو يقع في نفسه موقع الطمأنينة والرضا. ومضت السنوات تنضج الأجساد والعقول والنفوس، وتفتح في القلوب مشاعر تحمل عبق نسمات الصبا وتنشئ في العقول مدارك وأفكارا تنمو وتنضج وتطل على آفاق الحياة الواسعة. وشيئا فشيئا اعتاد فرانسوا الحياة في عالم هذه الأسرة التي تمثل له الوجه الآخر من الدنيا؛ واعتادت الأسرة أن يكون هذا الفرنسي جزءا منها محببا إليها؛ يترك مكانه فارغا حين يغيب؛ يسأل عنه الكبير والصغير ويترقب عودته! كان قد أوشك على إتمام الرابعة عشرة حين اكتشف أن فكرة جديدة تتبلور في نفسه تقول له: أنت من هذه الأسرة!.. كل شيء في كيانك، كل نبضة في قلبك، كل فكرة يرتاح إليها ضميرك ويستسيغها عقلك، تدفعك لأن تكون هنا وليس هناك؟!... نعم فلكم أحب كل فرد في هذه العائلة؛ الأب الواسع الصدر الواسع العلم الذي يحتضن عائلته بمحبة بالغة ويعطيها من حياته كل ذلك العطاء.. الأم المتفانية في التضحية من أجل سعادة كل فرد، من دون أن تشكو ومن دون أن تغادر وجهها الرقيق هذه البسمة المفعمة بالحب.. هؤلاء الأبناء المتحابون المتعاونون وطاعتهم الجميلة الراضية لأبويهم.. ثم هذا السلام الحاني الذي يلقي ظلاله الندية على الحياة كلها ويغرق فيه وينعم به كل فرد في هذه الأسرة السعيدة!.. ثم هل يستطيع أن ينكر، أو أن يخادع نفسه فينفي ذلك الانجذاب الرائع الذي هز قلبه لمشهد الصلاة.. فلكم وقف على بعد يرقبهم وهم يصلون خلف أبيهم صفا واحدا يضم الأسرة؛ يملأ قلبه بصورة الوحدة المتناسقة المتعاطفة التي لا يمكن أن تنفرط! ولكم تسمع إلى صوت الوالد عذبا خاشعا مستغرقا أجمل في حسه من أبدع الموسيقى وأروع الغناء! ولكم بهرته المعاني التي يشرحها له عبد الله حين يطلب منه ترجمة ما يتهدج به صوت الوالد في هذا النغم البديع حتى دفعه ذلك إلى البدء في قراءة هذا الكتاب الذي يضم ذلك الكلام الرائع!.. فهل لديه شك بعد كل هذا في صدق هذا النداء الذي يلح على قلبه ولا يفتأ يتناوش تفكيره فلا يجد منه فكاكا! كانت تمور في نفسه وأفكاره دوامة لا تهدأ، تختلط فيها أفكاره الواعية وأحلامه المهومة ومخاوفه التي تفرق منها مشاعره ويهتز لها ماضي عمره كله: أتراه يترك دينه الذي عاش به في نهاية المطاف؟!.. كيف.. وقد ولد في هذا الدين وعاش به وعاش فيه وله فيه ذكريات هي قطعة من قلبه؟!.. لقد عاش به ومعه في بيته وفي وشائج تجمعه مع أسرته القريبة والبعيدة، وهل ينسى أبناء أعمامه وأبناء خالاته حين يجمعهم المصيف؟!.. ولقد عاشه في مشاعره وفي خطرات فكره، ولقد سعد به فترة في طفولة حين كان يخطو فرحان بجوار أمه كل يوم أحد إلى الكنيسة القريبة في الحي.. وهو يستمع إلى خطبة القس التي لا يفهمها ولكن يندمج بها في الجمع.. وهو يتناول البركة من يد القس الذي يربت على كتفه.. وهو يستمتع بساعة مودة ورضى من أمه وقلبه الظامئ لا هف إليها!. كيف سوف يواجه أمه لوحدث ذلك؟! أمه التي تمقت هذا الذي يهفو له قلبه الآن ويتغلغل في عمق أفكاره ويقتنع به عقله؟!.. حتى أخته التي لا تعبأ بالدين ولا صلة لها بالكنيسة، كيف سوف يواجهها بدين جديد تمقته تقليديا من دون أن تعرف منه كلمة!.. فأما أبوه.. فلا يدري.. لا يدري على وجه التحقيق ما يكون موقفه منه!.. إنه إنسان متحرر واسع الصدر.. ولكن.. هل يبقى موقفه محايدا أمام مثل هذا الأمر العظيم؟!.. ويظل الصراع محتدما يؤرق أيامه ولياليه ولكنه يطبق عليه فمه.. لا يفوه بكلمة عنه حتى لصديقه الحميم! في يوم، وكان قد قارب أن يتم الخامسة عشرة، وقد ثقل عليه صمته وصراع أفكاره التي لا تكف، قرر أن يبوح بمشكلته التي سلبته استقرار حياته.. طلب لقاء منفردا بوالد عبد الله الذي ما لبث أن أجابه إليه.. كان يجل هذا الرجل الذي يأخذ في نفسه مكانة خاصة بعد أن اقتنع بفكره وبسعة علمه.. ذلك الذي تبدى له جليا وهو يدرس لهما: عبد الله وهو ما استغلق عليهما من واجباتهما المدرسية، ثم يطوف بهما في آفاق الحياة الواسعة يريهما عظمة الخلق وقدرة الخالق وانحرافات البشر ومظالم النظم. كان قلبه يدق عاليا كأنما يريد أن يخترق صدره، وكانت الكلمات التي يضغط عليها في حلقه تتدافع إلى فمه بغير ترتيب على الرغم منه!.. أفضى إليه بقراره، وأفضى إليه بمخاوفه. ربت الأب الذي يتدفق قلبه إشفاقا على ظهره ثم ضمه إلى صدره والدمع يترقرق في عينه.. قال له بصوت مشفق واثق. - يا بني الحبيب..اصبر.. اصبر.. فأنت بعد لم تصل إلى السن الذي يتطلبه القانون هنا ليعطيك حرية القرار.. ثم... ثم فإني أحب لك ألا تتعجل.. أن تدرس الأمر على مهل من جميع جوانبه.. أن تتعرف جيدا على هذا الدين.. أن تعرف حقيقة المعركة التي سوف تخوضها.. حينئذ تقرر وأنت واثق.. بكامل وعيك.. بعقلك.. متحررا من دوافع عاطفة قد تتغير بمرور الزمن؛ فالعاطفة وحدها يا بني لا تكفي لإصدار قرار هائل مثل هذا يتوقف عليه أمر الحياة كلها في الدنيا والآخرة، يا بني الحبيب، لسوف أدعو لك الله كثيرا أن يختار لك خير الدنيا والآخرة.. أن يريك الحق حقا ويرزقك اتباعه ويريك الباطل باطلا ويرزقك اجتنابه.. وأنا،.. وأنت تعرف مكانتك في قلبي وفي أسرتي، على استعداد دائم لأن أستمع إليك وأجيبك إلى كل ما تحتاج إليه. نزلت الكلمات الحانية على قلبه كالبلسم الملطف؛ فهو حقا شديد الاحتياج إلى هذه الهدنة.. إلى فسحة من الزمن يلتقط فيها أنفاسه، يرتب شأنه، شأن عقله وقلبه بما يستطيع أن يواجه به المعركة التي لابد أن يواجهها مع أسرته القريبة والبعيدة، ثم مع مجتمعه كله الذي أشرع سيف عداء لا يرحم ضد هذا الدين وأهله، إنه في حاجة لأن يعد عقله ونفسه ووعيه وثقافته لهذا الأمر العظيم!. لم يمض وقت طويل حتى استقر رأيه على أن يعلم أباه برغبته، فمن الخير أن يدخل المعركة من أكثر أبوابها يسرا وأقلها خطرا، وهو يعرف سماحة أبيه ورجاحة عقله التي لولاها ما احتمل حدة طبع أمه هذا الزمن الطويل!.. وهو يتوقع أن يكون قد لاحظ بعضا من تغيرات سلوكه؛ ويظن أيضا أنه قد كشف صلاته في رمضان الفائت وصيامه حين كان يتهرب من تناول غدائه أيام العطلات، ثم يخرج قبيل الغروب فلا يعود إلا في وقت متأخر بحجة الاستذكار مع عبد الله!.. وحين واجه أباه برغبته اختار ألطف أسلوب وأدمث كلمات!. لم يجد هذا كثيرا في تخفيف الصدمة، على رغم أن أباه كان يتوقع شيئا من هذا ويرهص به قلبه، ولكنه لم يتوقع أن يصل الأمر إلى مثل هذا القرار الخطير!.. ضبط الرجل أعصابه وهو يجيبه محذرا من مخاطر هذا القرار على كيان الأسرة وعلى موقف أبويه في أعمالهما ووظائفهما وعلى مكانتهما في المجتمع الفرنسي الذي لا يغفر مثل هذا العمل.. ثم كذلك على مستقبله هو الذي سوف يتعقد كثيرا بسبب هذا الحدث!.. ذكره بأن من حظ الإنسان في دنياه أن ينتمي إلى أمة متحضرة ودولة قوية، وليس من مصلحته أبدا أن يكون من أمم ضعيفة خاضعة لقوة الآخرين، تعاني في كل وجه من وجوه العيش، من الفقر والضعف والجهل وتدني المستوى الحضاري!. أمضته الكلمات الجارحة، وشعر بها تغوص في قلبه وتلدغ روحه؛ ولكنها في ذات الوقت طردت من نفسه كل تردد وملأت قلبه بشجاعة وصراحة لم يتوقعها فأخذ يقول لأبيه مالم يدبر شيئا منه من قبل!. يا أبي.. إن من الخير للإنسان أن يكون على الحق.. أن يعرف الحق ويختاره، لا أن يبقى في الباطل لينتفع به في دنياه!.. هل ترى يا أبي أننا على حق!.. أن حياتنا سوية وسعيدة؟!.. أن مجتمعنا عادل؟.. أن دولتنا القوية كانت في يوم ما عادلة وهي تنهب ثروات تلك الدول لتبني بها قوتها وغناها؟. ألا ترانا يا أبي قد جنينا رغد عيشنا من دماء تلك الأمم.. فقط لأننا قد اخترعنا سلاحا فتاكا قبل أن يخترعوه هم؟!.. يا أبي لقد قرأت كثيرا وعرفت الكثير عن تاريخنا، وعن أخلاقنا وأعرافنا الفاسدة التي توشك أن تحطمنا!.. يا أبي إني أتمنى أن تكون أنت برجاحة عقلك وسعة صدرك معي على هذا الحق!.. وإني أتمنى لو تعرفت على والد عبد الله ورأيت بنفسك كيف يعيشون حياتهم نظيفة من كل ما تتلوث به حياتنا.. لو عرفت ما هي القيم السامية التي يمارسونها وكأنها الأمر الطبيعي البسيط؛ لو سمعت أحاديثه الثرية وعلمه الغزير بالتاريخ وبالواقع، وبحقائق الكون وحقائق الدين كله.. إني أثق بك كثيرا يا أبي.. كانت كلمات الشاب الصغيرة بحماستها المتوقدة تقع في قلب أبيه كحصوات دقيقة مدببة الأطراف، كل منها تنكأ جرحا مطمورا واراه الرجل وراء لفائف من الكبت والصبر، ومن الرضا والقناعة بمسيرة الحياة الحديثة التي اقتنع بأنها ضربة لازب وأنها تمثل فلسفة التطور والحضارة!.. كانت أقرب شيء إلى الحجر الثقيل يلقى فوق سطح بحيرة ساكنة، فينشئ فيه الدوامات الكبيرة الواحدة إثر الأخرى حتى تغوص به إلى القعر فتثير كل ما رسب فيه!.. لقد استثارت الكلمات المفعمة بحرارة اليقين جوانب المأساة في حياتهم، ولكم كانت كثيرة، ولكم رأى وجه الحياة في عيشهم معكوسا ثم غض الطرف، ولكم أقنع نفسه بها حتى رضخت لها واستكانت.. وظيفته أقل في سلم الدرجات من وظيفة زوجته، ودخلها أكبر كثيرا من دخله.. لا يهم.. ولكن بسبب من ذلك ترى هي دائما أن كلمتها هي العليا، وهي التي يجب أن تسود مهما كانت بعيدة عن الصواب!.. كم كلفه ذلك من مرارات وكم أعنته وأعنت أطفاله!.. لا ينسى أول مرة عادت فيها ابنته إلى الدار تفوح منها رائحة الشراب ومعها صديقها.. كم غلت الدماء في رأسه وكم ثارت كل قطرة دم في كيانه، ولكنه أسكت بكلمة ثائرة من أمها التي تريد لها أن تحيا حياتها العصرية الطليقة مثل كل الفتيات.. ولن ينسى تلك الغصة التي لاكها قلبه وهو يقنع ابنه هذا قبل أيام قلائل في موقف شبيه، حين جاءه يتفجر غيظا وهوانا وثورة وقد رأى أخته تلك في موقف الحافلات تقبل صديقها وهي ملتصقة به، والناس حولها من كل جانب لا يهمها في شيء أن يروها!.. حين أخذ يتلو عليه كشريط مسجل، وقلبه رافض لكل كلمة.. يشرح له حقها في الحياة والاستمتاع الحر، وفي قيمة التجربة حتى تختار طريقها على علم ووعي!.. لكم يتمنى في أعماقه أن ينفض عن كاهله ذلك الرضوخ المذل للواقع... أن يكسر القيد..ثم يعيش بعد ذلك إنسانا شريفا حرا ولو في كوخ فقير!.. كلمات ابنه توقظ حنينا واغلا في جنباته لأن يخرج من دوامة أسره ذلك الذي يكتم أنفاسه كلما هاج في قلبه!.. لم يمض غير عام واحد حتى كانت الدائرة توشك على تمامها فيلتقي طرفاها بين الابن ووالده!.. تعرف الوالد على أبي عبد الله وصار أحد جلسائه الحميمين، ناقشه كثيرا وطويلا.. ناقشه في أوجه كثيرة من الأعماق حتى السطوح.. ثم أعلن اقتناعه.. ثم موافقته!. كان فرانسوا قد أوشك على إتمام السادسة عشرة حين تم في حياته هذا الحدث الهائل!.. لقد أعلنت في البيت هويته الجديدة ومعه أبوه.. كان سعيدا مشرقا كأنه قد فر من السجن لتوه!.. لكن وا أسفاه! لقد كان عليهما أن يعانيا عاما آخر من العذاب أو يزيد! أعلنت والدته رفضها المدمر يساندها كل من علم بالأمر من أفراد أسرتها أو أسرة أبيه، وبدا أن عليهما أن يعيشا منبوذين في بيتهما وفي بيوت الأسرتين!.. لقد هددتهما برحيل لاعودة منه هي وابنتها.. قاطعت كل شيء يخص حياتهما،.. قالت إنها لا تطيق أن تعيش مع الخائنين، وهل هناك خيانة أكبر من هذه الخيانة!.. كان قلب فرانسوا يتنزى ألما فلا يجد سبيلا إلى قلب أمه!.. كان يبكي وحده في الليالي الطوال، وكان يبث لواعج قلبه إلى عبد الله وأسرته التي صارت له أسرة، والتي شاركته محنته كأنما هي محنتها الخاصة!.. كان قلب الشاب ينبض بحب عميق لأمه على رغم كل خلاف بينهما، يحس أن في أعماق قلبها وفي ذكائها الناصع خيرا كثيرا تطمره هذه العصبية المتحكمة.. يحلم ويحلم، ويدعو الله حتى يحس أن نبض قلبه يتصاعد إلى حلقه!.. منذ أسابيع انقطعت بينها وبينهم حتى كلمات التحية المقتضبة حين عودتها إلى الدار في المساء.. ثم.. ثم كان هذا الصباح المشرق حين أفضت إليه وإلى أبيه بقناعتها بعد أن ظلت عاما كاملا تقرأ وتدرس! حكت لهما كيف كانت صدمتها مدمرة في أول الطريق.. كيف فكرت جديا في مفارقتهما إلى الأبد.. كيف عاشت ظروفا نفسية عصيبة.. ثم كيف هداها تفكيرها الذي لا يفتأ يقض مضجعها وينغص عيشها ليلا ونهارا إلى أن تبحث عن هذا السر الخطير الذي أفسد عليها أسرتها وأفسد دنياها!.. اشترت كتبا كثيرة ثم عكفت عليها كل أوقات فراغها، حتى في العمل!.. ذهبت إلى المسجد الكبير ترى وتسمع ما يدور!.. ناقشت كثيرا وجادلت!.. كانت في حاجة ماسة إلى عزلة عاطفية عنهما.. إلى انفراد بأفكارها حتى يكون قرارها حرا لا تشوبه شائبة من ضعف عواطفها.. هذه العواطف التي تتقلب في نفسها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار!.. وأخيرا اقتنعت بهذا الحق واستراحت إليه. حين انتهى اليوم الدراسي الطويل الذي حاول فرانسوا فيه جهده أن يضبط دوامات مشاعره، وأن يغطي داخله بقناع سميك من الهدوء والتركيز، أحس أنه كان أطول وأثقل يوم عاشه في حياته! انطلق خارجا من الفصل، ثم من البوابة الواسعة كأنما ينطلق من بوابة سجن كبير!.. بدل أن يتوجه إلى الحافلة دلف إلى شارع جانبي بعيدا عن طريق الزملاء بجمعهم، وعند أول تفرع انطلق مسرعا إلى كابينة الهاتف. على نهاية الخط، كان صوت عبد الله فرحا بندائه... سأله فرانسوا وصوته يتهدج عن سبب غيابه، فعلم أنها وعكة خفيفة لن تطول، وكذلك فلن تعوق لقاء المساء على العشاء الذي اعتادوه كل يوم جمعة؛ والذي يمتد أحيانا حتى منتصف الليل! سرى صوت فرانسوا إلى الطرف الآخر متهللا ببشر يطفر، لا يملك أن يمسك به، يقول: - الليلة يا عبد الله لن نكون وحدنا عندكم.. أبي وأنا.. لسوف تكون معنا مفاجأة لا يتوقعها أحد منكم!.. لسوف تكون أمي معنا!.. هل تصدق ذلك يا عبد الله.. هل تتصور كيف أجاب الله دعاءنا؟.. أحس يا عبد الله أن الله قريب قريب.. ينبض بحبه قلبي حتى يطرق حياتي من كل أقطارها!. حين وضع سماعة الهاتف وانثنى عائدا كانت دقات قلبه وتدفقات مشاعره تسبق خطوه، وكان حلم رفاف يسري في حناياه يتجلى فيه وجه حورية الوارف الحسن، يظلله الحياء البديع، محوطا بحجابها الأبيض الناصع، وهما معا ليلة العرس ينشئان معا واحة للسلام، تحوطهما قلوب الجميع.. أبيه وأبيها، أمه وأمها.. إخوتها جميعهم وعلى رأسهم صديقه الحميم الذي يكبرها بعامين، ولكن.. يا الله.. أين أخته هو؟.. أين ستكون؟.. وأنت في قلبه نبضة حائرة!.. ترى أين موقع سلفي في ذلك الحلم الجميل؟!.. ترى هل تكون هي أيضا...؟ هل سوف يفتح الله قلبها للنور فيلتئم الشمل؟.. ترى هل يجيب الرحمن أيضا دعاءه؟ نشر في مجلة (الأدب الإسلامي ) عدد (29)بتاريخ (1422هـ)