التقــــــــــاء

(1) تراقصت عيدان الذرة فتعالى حفيف الأوراق وهي تتعانق، وتتباعد مع حركة الريح. حبلى هي السماء، أتاها المخاض، دقائق وتلد، ويتقاذف الأطفال بالبرد، وتسجد الجباه، وترفع الأكف بالشكر وتلهج الألسنة بالابتهال. سيمفونية رائعة، واستقبال حافل حار لهذا الضيف الجليل، صعدت المطلع الأخير، ازدادت دقات قلبي، وارتفع صوتها، وتثاقلت قدماي، بجانب صخرة كبيرة استرحت. قال ياسر: الطريق شاق وصعب - اسمه بطن الجبل، ولكنه أحسن الطرق وأضمنها - وانفرج ثغره عن ابتسامة عرفت مغزاها. كانت أول مرة أصطحبه فيها إلى هذه القرية، وفي طريق عودتنا قال: انتبه للطريق ربما عدت وحدك المرة القادمة. يومها كانت السماء خاوية صفراء كجبال جرداء، كقلبي منذ سنوات قبل أن ألقاه: اهتزت أمامي كل مدرجات الذرة المتماوجة مبتهجة، حتى أشجار الطلح تمايلت فروعها على استحياء - وقد كساها اللون الأخضر فتراجع الشوك قليلا، رفعت يدي إلى السماء، وحمدت الله. في كل مرة يسألني عن القرية وأهلها، يرجوني أن أستريح هذه المرة من تعب الطريق ومشقته، فأجيبه: لقد ألفته كما ألفتك، وأحببته كحبي لك، وأعدد أشجار الطلح وأعدد رؤوس الجبال، فيضحك ياسر وهو يربت على كتفي، فيبدو وجهه كأنما غسل بضوء القمر. (2) تلتف حولي عيونهم المتعبة، رغبة جامحة وشوق عارم - يقبعان في تلك العيون في انتظار ساعة الدرس - كشوق الوديان - الظمأى إلى المطر. نجلس فتحوطنا الملائكة، وتغشانا الرحمة، وتتنزل علينا السكينة، ونبتهل إلى الله وندعوه أن يسقينا الغيث، في كل مرة أوصيهم بالحب وأذكرهم بتآخي المهاجرين والأنصار، والذي لم تعرفه البشرية من قبل، قال أحدهم منذ مقتل الشيخ صالح - سبع سنوات مضت لم ينزل المطر إلا منذ شهور. (3) تجمعت السحب حتى كادت تلامس رؤوس الجبال، اشتدت الريح، اشرأبت الأعناق إلى السماء. حانت ساعة الولادة، فهطل المطر، احتميت في غار صغير، واستمتعت بالمنظر الجميل، ساعة التقاء السماء والأرض. شربت عيدان الذرة حتى ثملت، ثم ساد المكان صمت مهيب. توضأت وصليت، ثم أكملت المسير. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي ) عدد (29)بتاريخ (1422هـ