أندلسيات شوقي وإقبال

في هذه الدراسة الوجيزة نتناول أندلسيات شوقي وإقبال بالمقارنة، ويبرر هذه المقارنة أن شوقي يتعاطف دوما مع الأمة الإسلامية في آلامها وآمالها، بل يمثلها ويعبر عنها في براعة ودقة، ثم إنه عاصر إقبالا وزار الأندلس وهي أرض أصبحت خرابا يبابا بعد طرد المسلمين منها والقضاء على آثارهم ـ زار شوقي الأندلس ولم تكن هذه الزيارة ناشئة عن رغبته ورضاه وإنما أكره وأرغم عليها. حيث إن الحكومة المصرية العميلة طردته ونفته إلى بلاد الأندلس، فكان مصابه مضاعفا بأسفه البالغ على تدهور الأوضاع في بلاده وعذابه النفسي على نفيه من وطنه الحبيب. زيارة شوقي وإقبال للأندلس وتعاطفهما مع أمتهما الإسلامية:- يصل شوقي إلى بلاد الأندلس بعد رحلة طويلة مضنية في أرجاء البلاد فيرى بها الأطلال والآثار المتهدمة من القصور والقلاع والجوامع تندب بلسان حالها المجد الزائل، وما حل بالأمة الإسلامية من نكبات وكوارث. وندب الأحجار الصماء والأطلال الصامتة أبلغ من مراثي الشعراء والأدباء. إن أجواء الأندلس المكفهرة وحديث الأطلال النادبة وذكريات الوطن هيجت الأحزان وجددت الآلام وهزت الوجدان، وآثارت المشاعر، وشحذت الأحاسيس ـ فانطلقت قيثارة شعره بقصائد رائعة. وأشهر قصائد الأندلسيات هي سينيته التي عارض بها البحتري في خضم الظـروف السيئة التي تحيط بشوقي، وآثار الرحلة الشاقة التي زادت من تعاسته وعذابه النفسي. تطأ قدمه أرض الأندلس التي تضم أروع صور التاريخ الإسلامي وأزهرها وأشرقها، كما أنه عادت اسما ثانيا لأكبر مأساة في التاريخ الإسلامي ورمزا دائما لها. ويبدو للدارس مع ملاحظة الأجواء الفنية أن شوقي يرزح تحت عبء ثقيل من الحنين إلى الوطن والجزع عليه حتى إن الفكرة الرئيسة التي نلحظها باستخلاص الدراسة المركزة هي اللهفة على مفارقة الوطن والرغبة الجامحة في العودة إليه، يقول: كل دار أحق بالأهل إلا في خبيث من المذاهب رجس وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي إنه لايزال يحلق في أجواء مصر ويطوف بين الجيزة والنيل، إنه يبدئ ويعيد في التحسر والتأوه على مفارقة الوطن ويطيل النفس فيه، ثم يثوب إلى ما حوله بعد طول التطواف في أودية الخيال والذكريات فيواصل حديث الأحزان الذي تمليه عليه الآثار والديار: وإذا الدار ما بها من أنيس وإذ القوم مالهم من محس منبر تحت منذر من جلال لم يزل يكتسيه أو تحت قس من لحمراء جللت بغبار الدهر كالجرح بين برء ونكس كسنا البرق لو محا الضوء لحظا لمحتها العيون من طول قبس حصن غرناطة ودار بني الأحمر من غافل ويقظان ندس من أدب إقبال في الأندلس:- قام إقبال بزيارة الأندلس تحدوه الأشواق والحنين إليها بصفتها بابا زاهرا من التاريخ الإسلامي في أغر عهوده وأشرق أدواره ـ البلد الإسلامي الذي كان مركزا للعلم والحضارة حين كان سائر أوربا يتسكع في دياجير الجهل والخمول والتخلف، وكان رائد النهضة والتقدم، ومنه فتحت النوافذ التي أنارت للغرب طرق الصحوة، وكان العامل المباشر في إيقاظ الغرب من وطأة السبات والغفوة التي امتدت أحقابا متلاحقة. زار إقبال الآثار متفقدا متلمسا فيها آيات الماضي السحيق، واستنطق الديار والآثار، واستلهم العبر والدروس، فبكى على الخراب واليباب، واتعظ ووعظ، حلق بقريحته الوقادة في أجواء الماضي، وطاف بفكره وخياله في دروب العهود الغابرة. وقف إقبال أمام الآثار الباقية من تاريخ المجد والعزة موقفا فيه حرارة العواطف الإيمانية الجياشة ورزانة الفكر المشرق، وقرض بها قصائده المتدفقة إيمانا وحنانا، وعاطفة ووجدانا وفكرا وفلسفة، وتلاحمت فيها هذه العناصر بصورة متزنة متكافئة. وبرغم أنه تمالك نفسه، وأرخى زمام خياله في ربوع الماضي الزاهر، وتحسر على المجد الزائل، ولكنه تحسس كذلك بصيص الأمل في المستقبل. وتمتاز قصائده الأندلسيات ببصيرة نفاذة في فلسفة التاريخ، فهو يبدو من خلالها شاعرا والها يشعر بفداحة مآسي التاريخ، ويتأمل عناوينها في صورة الآثار الباقية. وفي الوقت ذاته يتناول بيان العوامل التي تسهم في رفعة الأمم إلى قمم المجد والشرف، كما يتعرض للأسباب التي جعلتها في حضيض الذل والمهانة. والشيء المثير حقا أنه لاتجنح به العواطف المكلومة إلى اليأس والقنوط، بل إنه قوي الثقة في المستقبل لدرجة أنه يبدو كأنه أمين أسرار الأقدار وسنن الكون، وكأنها أسرت إليه بشيء من البشائر التي لايريد أن يتفوه بها ويفشي أسرار الفطرة الكونية. والقصيدة الأولى التي نظمها إقبال في جامع قرطبة تتضمن المناجاة والضراعة إلى الله، يقف فيها خاشعا مبتهلا ويقول إن مناجاته الحارة وأناته الجريحة تنبعث من قلب منكسر مقروح، وإن جل ما يملك من ثروة هي الأمنية فقط، إنه لايتكل على الأسباب المادية ولاعلى حظوة عند سلطان أو جاه، بل إن قلبه مشرق بالأمنية ودافئ بحرارتها. جامع قرطبة لايزال جامع قرطبة نموذجا فذا لامتزاج الإيمان والفن وتلاحم الروعة والجلال. والقصيدة التي نظمها إقبال تتألف لحمتها وسداها من الإيمان والفن، كذلك استوحاها الشاعر من معالم هذا البناء البديع الذي بقي رمزا للإيمان والحب والإخلاص، ولم تستطع يد الفناء والدمار أن تمسه بسوء على خلاف السنن الكونية في البقاء والفناء، وبرغم عواصف الثورات الهوجاء التي ماتذر من شيء أتت عليه إلا جعلت عاليه سافله، في مثل هذه الأجواء الفنية يستهل إقبال قصيدته بحديث في ماهية الزمان يتكافأ فيه الوجدان والفلسفة بنسبة عادلة فيقول: إن اختلاف الليل والنهار يرسم الحوادث، وهو أصل الحياة والممات، إن دورة الليل والنهار آية تثبت هيمنة القدرة الإلهية على مصائر الإمكان ويخاطب مبنى الجامع فيقول: ياحرم قرطبة، الحب أساسك. أنا واحد من أبناء حضارة الهند الوثنية لكن قلبي عامر بالصلاة والسلام على النبي، والصلة القلبية الدائمة بمركز الحياة الإيمانية، ويتدفق الحب والشوق من صوتي وإيقاعي، وتتنفس به حروفي وكلماتي وأنشودة التوحيد حلت من سويداء قلبي مكانا وتمكنته، وعلقت بسر سريرتي، وخالطت لحمي ودمي. ياجامع قرطبة روعتك وجلالك دليل على جمال المؤمن. أساسك ثابت دائم، وأعمدتك أكثر من أن تحصى، كأنما هي نخيل في بساتين الشام، جدرانك وسقوفك وضاءة كالوادي الأيمن، حقا إنه لايمكن أن ينمحي المؤمن من الوجود لأن أذانه يحمل معاني من تضحيات موسى وإبراهيم، إنه لايحتبس في الحدود الجغرافية، بل إن آفاقه مفتوحة بلا غاية ولا نهاية. وليس النيل ودجلة ودينوب إلا أمواجا من محيطه، تاريخ حافل بالعجائب والمعجزات، وهو الذي كان رائد النهضة البشرية الكبرى، وقائد الثورة التاريخية التي أخرجت الركب البشري من مآزق الظلمات والجهل الى آفاق العلم والهداية، كان علما في مجال العلم والثقافة كما كان بطلا في مجالات الحياة الأخرى. كان يستقي من المنهل الروحي الصافي وكان سيفه لا ينبو . هو جندي درعه التوحيد وترسه في ظلال السيوف هو التوحيد كذلك. أنت ـ يا جامع قرطبة ـ تحكي جزءا من أسراره.. من جده المتواصل في النهار.. وتضرعه المستمر آناء الليل، ومكانته الرفيعة وطموحه ونشوته وشوقه وثقته ويخاطب إقبال نهر الوادي الكبير فيقول: أحلم بشاطئك بعهد جديد، وخريطة الأحداث المستقبلة وإن كانت محجوبة وراء الأستار فإنها مكشوفة ماثلة أمام عيني. ولو أزحت الستار عن وجه الحقائق التي ألحظها لجن جنون الغرب، ولم يطق التحمل. والقطعة الأخيرة تتضمن رموزا ونتائج استخلصها الشاعر من خلال جولة التاريخ و الأحداث في ربوع الأندلس فيقول: إن الحياة التي لاتواكبها الثورة تسميتها بالموت أحق وأجدر، لأن الكفاح المتواصل والثورة المحتدمة حياة روح الأمم. إن الأمة التي تحاسب نفسها وتستعرض دورها في القيام برسالتها يختارها الله لأن تكون الصارم البتار الذي يتولى إنجاز المهمات، والآثار التي لم ترسمها لوعة الحب تنمحي وتدرس، والأغاني خاوية من الروح مالم تجندها عواطف الحب الملتاعة. ويقول في قصيدته الأخرى التي عنوانها أسبانيا: أسبانيا! أنت أمينة على دم المسلمين المودع في عروقك، آثار السجدات خافية في تربتك، وأصوات الأذان الخافتة الصامتة تتردد مع هبات نسيمك. كانت أسنة المسلمين متلألئة لماعة مثل النجوم حين كانت خيامهم متناثرة في سهولك وهضابك وإذا كانت أرضك تتطلب منا تضحية فلن نتخلف عن تقديمها ، لقد خارت عزيمة المسلم وخمدت جذوته ولكن ليس إلى درجة أن يرتاع من الأضغاث والأعصاف، لقد زرت غرناطة ولم تزدني الزيارة إلا قلقا وحسرة واضطرابا والتاريخ ينكأ الجروح، وينبش دفائن الأحزان، وكذلك الآثار تجدد الآلام والجراحات. من الموافقات الغريبة التي يصعب تعليلها وتحليلها أن الشاعرين أحمد شوقي ومحمد إقبال تجاوبا بوحي الظروف في أجواء أسبانيا بصفة متماثلة إلى حد كبير، وأندلسيات إقبال تشمل ست قصائد أولاها عبارة عن دعاء وضراعة، وثانيتها حول جامع قرطبة، والثالثة تتضمن ذكرى الشاعر المعتمد بن عباد أحد ملوك أشبيلية وشكواه في السجن. والرابعة تعبر عن مشاعر عبد الرحمن الداخل عندما رأى غرسة النخل الأولى التي غرسها في مدينة الزهراء وهيج مرآها أشواقا وحنينا، وجادت قريحته بشعر رقيق، واستطاع إقبال أن يتذكر هذا الموقف ويعبر عن جماله ويترجم الأبيات الى الأردية. والقصيدة الخامسة التي عنونها أسبانيا تعبير عن أواصر العقيدة التي ربطت بين الشاعر وتلك الأرض النائية وجعلتها مهوى قلبه. والقصيدة السادسة تشتمل على دعاء طارق بن زياد في ميدان المعركة. نماذج من شعر شوقي في الأندلس: أما شوقي فله أربع قصائد أندلسية وهي الرحلة إلى الأندلس وأندلسية وصقر قريش وبعد المنفى. لقد أسلفنا الحديث عن جامع قرطبة .. لإقبال والرحلة إلى الأندلس لشوقي، واستعرضنا مغزاهما بإجمال. ولا يفوتنا أن نلحظ أنهما تحتلان مكانة مركزية في هذه الدراسة لأنهما نموذجان يدلان على الخصائص الشعرية التي امتاز بها كل من الشاعرين. وإذا قرأنا أندلسية شوقي التي استهلها بقوله: يا نائح الطلح أشباه عوادينا نشجى لواديك أم نأسى لوادينا ماذا تقص علينا غير أن يدا قصت جناحك جالت في حواشينا رمى بنا البين أيكا غير سامرنا أخا الغريب! وظلا غير نادينا رمز بنائح الطلح إلى المعتمد بن عباد ملك أشبيلية الذي هزمه أحد ملوك أسبانيا واعتقله، والطلح المشار إليه هنا واد قريب من أشبيلية، وكان ابن عباد شديد الولع به. بهذه الأبيات يتعاطف معه شوقي في مصابه وفي هذا التلميح والاختيار ما يشعر بالاضطراب وقلق البال الذي عانى منه وشوقي في منفاه. ومن المناسبات اللطيفة التي يجدها الملاحظة أنه عارض بهذه القصيدة ابن زيدون وهو من أبرز الشعراء الأندلسيين كذلك. وأجواء الأندلس تهيج الأحزان وتجدد الآلام ويرسل الشاعر نفسه على سجيتها. وتتفجر منه القصائد الشجية. وتلاقى شوقي وابن عباد عبر هذه القصيدة على صعيد واحد من عوادي الزمن وصروفه. إذا رجعنا إلى إقبال الذي ترجم بعض أبيات المعتمد إلى الأردية نجد أن في اختياره دقة ومناسبة أخرى تتفق ونفسيته، وتنسجم مع ميوله ونزعاته في تفسير الحياة، فيقول إقبال على لسان المعتمد بن عباد: لم أعد أملك إلا شكوى خامدة باردة خالية من اللوعة وخاوية من الروح. ونياحة المعتمد بن عباد التي أشار إليها شوقي بقوله يا نائح الطلح عبر عنها إقبال ونقلها بأسلوب بديع أخاذ. ومفادها على حد عبارة إقبال: أنه يتألم بمضاضة الحسرة على الزنزانة التي حبس فيها، وجسمه الذي قيدته الأغلال الحديدية يحوي روحا متحررة مطلقة، ما ألذع السخرية التي يجربها ويعيشها حيث كان سيفه ذو الشفرتين من نفس المادة الحديدية، ويبدو له أن سيفه الذي كان يضمن له الحرية المطلقة وحمايتها تحول إلى قيود وأغلال، وما أغرب هذا التحول وما أشد لسعه. واستطاع إقبال أن يستنتج فلسفة ويبلغ رسالة على لسان المعتمد بن عباد، ويعرض في وقت واحد صورتين مضادتين من عالم الأسباب المادية التي سرعان ما تتحول من مصادر القوة إلى مهاوي الردى، وكيف تتصارع الأمور والتدابير وكيف تبوء التدابير النكدة المرتجلة بالفشل في وجه الأقدار الجبارة. وأحب شوقي أن يحوم حول الظواهر من الرسوم الدارسة والتي كانت بطبيعتها بابا من التاريخ الحافل بالمآسي والنكبات فيقول: أهالنا! نازحي أيك بأندلس وإن حللنا رفيفا من روابينا رسم وقفنا على رسم الوفاء له نجيش بالدمع والإجلال يثنينا نسقي ثراهم ثناء كما نثرت دموعنا نظمت منها مراثينا كادت عيون قوافينا تحركه وكدن يوقظن في الترب السلاطينا وإذا قارنا هذه القصيدة مع سينية رحلة الأندلس بان لنا الفرق واتضح لنا من خلال الوداعة والتلطف أنه هنا أحر عاطفة وأقرب استجابة لوحي الجو الفني . فيقول: يا من نغار عليهم من ضمائرنا ومن مصون هواهم في تناجينا ناب الحنين إليكم في خواطرنا عن الدلال عليكم في أمانينا جئنا إلى الصبر ندعوه كعادتنا في النائبات ، فلم يأخذ بأيدينا عبد الرحمن الداخل بين شوقي وإقبال: وقصيدة شوقي في صقر قريش تقابلها قصيدة إقبال في النخلة التي غرسها عبد الرحمن الداخل وناجاها وكاشفها ببنات صدره وعبر عن عواطفه المتأججة شوقا وحنينا إلى وطنه الطبيعي في الشرق. بالإحالة على أبيات عبد الرحمن الداخل في تلك المناسبة نظم إقبال قصيدة قصيرة ضمنها موضوعين: فالقطعة الأولى عبارة عن العواطف الجياشة التي أضرمتها الأسباب والظروف المباشرة وتمثلت في صورة نخلة في أرض أوروبا، تذكر عبد الرحمن بمولده ونشأته، ووطنه الأليف الذي غادره لينجو بنفسه من الموت، وظل يطارده إلى أن وصل إلى تلك الأرض الأوروبية فآوته، وفوضته مقاليد حكمها، ألا يشعر بخواء وعدم قناعة في دخيلة نفسه، ويحس بنوع من الحرمان، وتقف النخلة أليفته الوحيدة التي تشاطره هذه العواطف، فهناك حنين إلى الوطن، وهناك عطف ولطف مع النخلة الغريبة كذلك. والقطعة الثانية تحمل عالما آخر من المعاني الزاخرة بالثقة بالذات والإيجابية والأمل والطموح والتقدم وسعة الآفاق رغم العقبات والعراقيل، وهذه هي الرسالة التي أراد إقبال أن يبلغها على لسان عبد الرحمن الداخل بإحالة مكررة على النخلة الغريبة التي نبتت ونمت واستغلظت وتقوت في أرض نائية غريبة، وبإشارة إلى سيرة الداخل الذي يضاهي النخلة في النمو والتقدم وفي الظروف والأوضاع كذلك . القطعة الأولى تعبر عن عاطفة إنسانية والثانية تفسر فلسفة الحياة، ويلاحظ أن محمد إقبال ذو مقدرة فائقة في الجمع بين هذين الجانبين بتكافؤ واتزان. نعود إلى شوقي وصقر قريش ورغم أنه يستهل بيانه في جو البين المكفهر: بلبل علمه البين البيان بات في حبل الشجون ارتبكا وبالتفاتة حانية إلـى الشرق يتقدم خطوات بعيدة ويتناول الموضوع بجد وبصيرة، ويستخلص من تاريخ الأندلس نتائج ويتخذ عبد الرحمن الداخل رمزا للبطولة والشموخ فيقول: يا شباب الشرق عنوان الشباب ثمرات الحسب الزاكي النمير حسبكم في الكرم المحض اللباب سيرة تبقى بقاء ابني سمير في كتاب الفخر للداخل باب لم يلجه من بني الملك أمير ويقول : عن عصامي نبيل معرق في بناة المجد أبناء الفخار نهضت دولتهم بالمشرق نهضة الشمس بأطراف النهار ويطيل النفس في بيان سيرة الداخل، وتصديه لتحديات الأحداث، وتجلده للنوائب، ونجاحه أخيرا في معركة الحياة، ويستعرض أبوابا زاهرة من التاريخ الإسلامي، ويذكر أبطال الحروب التي خاضها المسلمون لفتح الأندلس . ويذكرطارق بن زياد وموسى بن نصير، ويستنبط من دراسته في التاريخ أن الموت حرام على العباقرة. وبرغم أن كرة الزمان عاتية تهدم ما يعترض سبيلها فإن العبقرية في مكان أمين بعيد عن متناول يدها، يقول: إن تسل أين قبور العظما فعلى الأفواه أو في الأنفس وحيث إن تاريخ الأندلس ناقص ما لم يذكر طارق بن زياد لذلك نجد أن محمد إقبال يقف وقفة تأمل وإجلال مع هذا البطل وهو يتضرع إلى الله في ميدان المعركة. ويتولى إقبال نقل ما يجول في خاطره في ساعة المحنة الكبرى، وتمكن إقبال من التعبير عما تفتعل به نفسه بتذكر ذلك الموقف. والقطعتان اللتان اشتمل عليها الدعاء تعبران عما تختلج به سريرة طارق وإقبال معا ـ القطعة الأولى تمجد دور المجاهدين في سبيل الحق وتشخصهم أبطالا يرتعد لجلالهم الكون، وتهتز لهم الجبال، وتنكمش وترتجف الصحارى والبحار. وليس كل ذلك من بطشهم وجبروتهم بل إن هذه الرعدة والقشعريرة وهذا الاهتزاز والرجفة رمز لتجاوب الكون مع سلوكهم وطهرهم وعفتهم ، ولأنهم لم يطووا الأرض لفتح الأراضي والحصول على المغانم، وإنما غايتهم الأولى والوحيدة هي بذل أغلى ما يملكونه لتحرير البشرية من أغلال الكفر والاستماتة في سبيل ذلك ومحياهم ومماتهم يدور حول هذا الهدف. وفي النهاية يشمل الدعاء جميع المؤمنين ليتخلقوا بهذا الخلق، وينضموا إلى الموكب الكريم. وهكذا بدأت أندلسيات إقبال بدعاء وانتهت به. بدأت بدعاء إقبال وأناته المكلومة في جامع قرطبة، وانتهت بدعاء طارق بن زياد قبل فتح الأندلس، وقد يكون هناك تعمد وتفاؤل في هذا الترتيب إذا لم نعده مجرد موافقة. وآخر أندلسيات شوقي هي بعد المنفى قرضها بعد عودته من منفاه بالأندلس ومطلعها: أنادي الرسم لو ملك الجوابا وأجزيه بدمعي لو أثابا وقل لحقه العبرات تجري وإن كانت سواد القلب ذابا سبقن مقبلات الترب عني وأدين التحية والخطابا أبدى فيها مشاعره الرقيقة نحو هذه الأرض التي آوته في أيام المحنة، فشكر لها صنيعها وأشاد بحسن العشرة التي لقيها هناك ، يقول: وداعا أرض أندلس وهذا ثنائي إن رضيت به ثوابا وما أثنيت إلا بعد علم وكم من جاهل أثنى فعابا شكرت الفلك حوت رحلي فيا لمفارق شكر الغرابا وتلوح للدارس في شعر شوقي صورتان من صور الحياة. إنه يبدو مؤمنا متصلبا يشيد بالأخوة الإسلامية، وقلبه عامر بالعاطفة الإسلامية ويخفق للخلافة الإسلامية ومقرها في الآستانة، وأحيانا نلفيه متوسعا متسامحا ومتفتحا الى أقصى الحدود، ويبلغ حبه لمصر حد التقديس والعبادة 3 ولكن سر براعته الجمع بين هاتين الصورتين المضادتين ليس بناء على التزوير والتلفيق بل إن شخصيته المزدوجة تكونت من خليط هذه العناصر المتضاربة، وتأمر شوقي بخصائصه الفذة على شعراء الجيل، وأصبح شاعر العرب والإسلام والمسلمين، وكان لسانا وترجمانا للأمة فيما تحب وتكره، وفيما تنفعل به عواطفها من ذكريات وحوادث. 4. وكانت لدى إقبال وجهات نظر متضاربة ذات اليمين وذات الشمال في بداية عهده بالشعر، وكان قد تأثر بالنظرية الوطنية، ومن آثارها النشيد الهندي الوطني المعروف، ولكنه سرعان ما رجع وحاول أن يستدرك ذلك. واستقر مذهبه على الأخوة الإيمانية الشاملة متخطيا الحدود الجغرافية وفوارق اللون والعرق وأصبح صوتا مميزا ألفته الجموع والجماهير الإسلامية وأصبح لسان الأمة المعبر عما تنفعل به عواطفها وما يهمس في ضميرها من الآمال والأماني، وبدأ صدى صوته يرن في أجواء العالم الإسلامي، ثم إنه رسم لنفسه مهمته في إيقاظ الوعي وحدد مكانه من نفسه وأمته. التاريخ مصدر عظة واعتبار لهما: ومن مواضع الاتفاق التي يجدها الدارس في شعر إقبال وشوقي وحدة المواضيع ووحدة التجاوب في أندلسياتهما. ولهما نظرة متماثلة في الاعتبار بمأساة التاريخ الغابر غير أن شوقي طويل النفس فيها بينما آثر إقبال الإيجاز، اللهم إلا في جامع قرطبة فإنه أسهب فيها وأطنب. ويبدأ إقبال قصيدته المحورية حول جامع قرطبة بحديث فلسفي في ماهية الزمان وصروف الدهر وجبروته، ومن الموافقة الغريبة أن شوقي كذلك يبدأ بإشارة عابرة إلى هذا الموضوع فيقول: اختلاف النهار والليل ينسي اذكرا لي الصبا وأيام أنسي ويبدو للدارس أن الهموم والأحزان خيمت على شوقي، وطبيعة الموقف تتطلب بعض ذلك لمعاناته في المنفى، وأشواقه إلى الوطن البعيد فتظل الآثار الدارسة والأطلال تذكر بمصابه فيتوسع في معالجة هذه الظاهرة ويستمر فيها. لكن الدارس يتوقع منه موقفا متمهلا ومتأنيا أكثر، وشوقي يتركه في حيرة ووجوم وخيبة أمل، ويرجع أدراجه ليحلق في أجواء مصر.وقد يسبب ذلك نوعا من الأزمة العاطفية والنفسية للدارس المرهف الحس. وإقبال لا يتناول الأطلال والآثار على ظواهرها بل يعتبرها رمزا وتذكارا، ويستنبط منها ومن أحداث التاريخ العبر والدروس، ويستغل وحيها في إبلاغ رسالته، وله نظرة عميقة في فلسفة الحياة استوحاها من ظواهر الآثار وكوامن الأسباب. وكذلك يختلف شعورهما بالمآسي والأحزان؛ حيث إن شوقي يعيش داخل إطار من فقدان الذات في منفاه، وحنينه الجامح إلى الوطن، وتكراره لذلك يحدد مدى شعوره بفداحة المأساة الأندلسية، ولا يستسيغ الدارس تألمه بمصابه الشخصي في سياق مأساة الأمة، وهذا قد يشعر بنوع من الجفاف والبرود في موقف يتطلب حرارة وحسا وعاطفة أصدق وألصق. أما إقبال فإنه يزيح الأستار المغايرة ويتلاشى شعوره الفردي في كيان العالم الإسلامي الموحد، وولاؤه لأرض الأندلس ليس أقل من ولائه لوطنه. أيها البلبل الصادح كيف أتفق أنا وإياك، فأنا ضمير البر والبحر. وأنت حبيس وكرك. والفرق بيني وبينك أنك تهتم بنفسك فقط، وشجوي ليس لنفسي وإنما يشمل الكون والآفاق. وإقبال ينتهز الفرص والظروف المواتية لإبلاغ رسالته لتعيها الآذان الواعية. وله رسالة واضحة في جميع وقفاته، وعلى هذا الصعيد يتلاقى حديثه المستوحى من تجارب التاريخ وحديث الآثار والديار كما قال الشاعر: فأخذت اسأل والرسوم تجيني وفي الاعتبار إجابة وسؤال هذا، ومن خصائص أندلسيات شوقي معارضته البحتري وابن زيدون والموشحات الأندلسية. وإذا تتبعنا مدى تأثر شوقي بالأندلس وآثارها وتاريخها بصفة عامة نجد أنه يشير إليها، ويحيل عليها في بعض المناسبات الأخرى. فمثلا كتب مرة إلى حسين واصف يستهديه شجيرات فكان مما قاله: ما نظرت مثلك عين النرجس بعد ملوك الظرف في الأندلس ولما وقعت مأساة حرب البلقان بسقوط أدرنة ـ إحدى المدن العثمانية ـ في شرقي أوروبا في أيدي البلغار سنة 1913م 5 انطلقت قيثارة شوقي بشعر يجمع بين الرقة والرنين وبين صدق العاطفة المكلومة والنفور من الهمجية التي تظاهر بها العدو. وعنون القصيدة الأندلس الجديدة فقال: يا أخت أندلس عليك سلام هوت الخلافة عنك والإسلام نزل الهلال عن السماء فليتها طويت وعم العالمين ظلام أزرى به وأزاله عن أوجه قدر يحط البدر وهو تمام جرحان تمضي الأمتان عليهما هذا يسيل وذاك لا يلتام بكما أصيب المسلمون وفيكما دفن اليراع وغيب الصمصام. وهكذا يلتقي شوقي وإقبال عند زيارتهما للأندلس ويفيضان لوعة وحزنا لما أصابهما ، كما يستحثان الأمة الإسلامية على استعادة مجدها. الهوامش 1 ـ د.طه وادي: شعر شوقي الغنائي والمسرحي، القاهرة، دار المعارف ط 3 985 م ص 13. 2 ـ د. شوقي ضيف: شوقي شاعر العصر الحديث، القاهرة ، دار المعارف ط7 ص 31 3 ـ د. محمد حسين هيكل. مقدمة الشوقيات. القاهرة ، مطبعة الاستقامة ط 1953م الجزء الأول ص6 4 ـ محمد سعيد العريان مقدمة الشوقيات الجزء الرابع القاهرة مطبعة الاستقامة ط1956 ص 4. 5 ـ ومما يذكر ولا يهمل أن إقبال كذلك تأثر كبيرا بهذا الحادث، وجادت قريحته بقصيدة: قصيرة أشاد فيها بسلوك الجيش التركي وحشمته وتعففه في أشد المواقف حرجا وافتخر بذلك. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي ) عدد (29)بتاريخ (1422هـ)