المركزية في الإدارة!

خلق الله البشر بقدرات وإمكانات محدودة، ولذا فإن من الاعتساف تصور الإنسان بإمكانه القيام بأي عمل أو بمجموعة من الأعمال في وقت واحد تجاوز طاقته. والعجيب أنه مع هذا التقدم التقني الهائل الذي أدى إلى توسيع دائرة العمل الجماعي المتباعد جغرافيا نجد بعض القياديين يصر على ممارسة مركزية مقيتة تعود بأجواء العمل كرة أخرى لعقود الثلاثينيات والأربعينيات. ولست هنا بصدد مقارنة المركزية باللامركزية فذاك شأن المختصين بعلوم الإدارة، ولكن الحديث هنا عن سمة بارزة تحكم سلوكيات البعض ولا يصعب توقع نتائجها غير الحميدة على ممارسها ومن حولها فإذا تطبع القيادي بهذه السمة كان تأثيرها أوسع وعواقبها أسوأ. إن الطبيعة المركزية هي عنوان لطبائع أخرى متضمنة، فالمركزي هو من اقتنع من دخيلة نفسه أن هذا العمل (أو الأعمال) لا يتقنها أو يؤديها حق أدائها إلا هو ويترتب على هذا فقدانه الثقة بالكثيرين ممن حوله أو من يعملون تحت قيادته وهو يعيش نفسية الشك المطلق، وبالتالي فهو يكدح ويكدح الساعات الطوال ويعمل خارج وقت الدوام وربما في أيام الخميس والجمع والإجازات بدون جدوى وهكذا يدور في حلقة مفرغة تبدأ حيث تنتهي. ولعل من ابتلي بمثل هذه النوعية من القياديين لا يفوته ملاحظة قواسم مشتركة تكاد توجد في كل منشأة يتسنمها قيادي مركزي، وأخطر هذه الظواهر: الإحباط الشديد لأصحاب القدرات والكفاءات والذين يشعرون بفقدان ثقتهم بأنفسهم لتبدأ ظاهرة التسرب لهذه الكفاءات في محاولة منها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومن ثم تفرغ المنشأة من المتميزين المبدعين ولا يبقى فيها إلا الإمعات التي أحرى بها أن تعود بالمنشأة إلى الخلف عوضا عن التقدم والتطوير. وثمة ظاهرة أخرى ألا وهي تنامي الإجراءات البيروقراطية داخل المنشأة، فالموضوع الذي يمكن إنهاؤه من قبل موظف صغير وبوقت يسير يتصاعد تدريجيا في سلم المركزية حتى رأس الهرم المركزي ليبت فيه ومن ثم ينمو أخطبوط الانتصار ليحيل المنشأة إلى قارورة كبيرة مخرجها كسم الخياط. إن المنشآت التي تبتلى بهذا النوع من القياديين حرية أن تتوقف أو تكاد بفقدان فارسها الأوحد حتى لو كان لإجازة اعتيادية أو طارئة (وما أقل ما يتمتعون بإجازاتهم ليريحوا ويستريحوا) خصوصا وأن هذا النوع من الإداريين حريص كل الحرص على البديل الآلة وأعني به البديل المبرمج لكي لا يخرج عن الطور المرسوم له ولا يفكر حتى مجرد التفكير بالخروج عن دائرة المركزية المغلقة. يظهر لي تأملا أن هذه الظاهرة مردها أمر نفسي بالدرجة الأولى، فالذي ينظر بمنظار أسود معددا لمساوئ البشر فقط ويجيد التركيز على المعايب دون الحسنات لاشك سيجد في الطبيعة البشرية ما يؤيد نظرته ويؤكدها وبالتالي فقدان الثقة بكل أحد إلا نفسه ومن ثم تتراكم هذه التخيلات لتخلق نفسية شكاكة مرتابة تحيل الأمر الطبيعي الاعتيادي جبلا من الأوهام وتربط بين مالا يترابط إلا في مخيلة هذه النفسية المريضة، ومن ثم تتوالى هذه السلاسل لتنتج في النهاية شخصية مركزية لا تثق إلا بنفسها ولا تعطي ثقتها لأحد ولا تفوض حتى صغائر الأمر وتوافهها لتبدأ مسيرة الدوران في الحلقة المفرغة فالأعباء كثيرة والشك في كل أحد وهي تحاول عمل كل شيء بنفسها والاطلاع على كل شيء والنتيجة هي عمل مشوه ناقص يفقد كل سمات الإبداع. إن المنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع