آلـيات التصـديق

هل تصدق بالأشياء لأنك جربتها، أم لأنك سمعتها وتبنيتها؟

فهناك فرق كبير بين تجربة الشيء، وبين اقتباسه من الآخرين..

فرق كبير بين اتخاذ قرار بُــني على تجربة وخبرة شخصية، وبين اتخاذ قرار تبنيناه ونشأنا عليه، وفكر فيه إنسان غيرنا..

السؤال الذي يهمنا في هذا المقال هـو: كيف نصدق؟ وليس ماذا نصدق..

فنحن نصدق ونتبنى الأفكار والقناعات بطريقتين: الأولى لأننا فكرنا فيها بأنفسنا، والثانية لأننا أخذناها جاهزة من غيرنا..

الحالة الأولى نادرة واستثنائية (لدرجة صادمة)، والثانية سائدة وطاغية (لدرجة لا تثير قلق أحد).. أعـتقد شخصياً أن أكثر من 95 % من الأفكار والمواقف والأحكام التي نتبناها وندافع عنها (ونعتقد أنها خاصة بنا) فكر فيها غيرنا أو ورثناها من بيئتنا والمحيطين بنا.. إن كنت تعتقد أنني مبالغ في هذه النسبة أخبرني أنت عن الــ5 % من الأفكار الأصيلة التي اكتشفتها بنفسك أو لم يسبقك إليها أحـد من العالمين.. لدي محاضرة كاملة بهذا الشأن (تجدها على اليوتيوب بعنوان: يكفي نسخاً مكررة) تؤكد أننا مجرد نسخ متوارثة من شخصيات ومواقف حدثت قبل قرون من ولادتنا..

"ماذا تصدق" أمـر لا يعنيني، وما يهمني فعلاً هو تنبهك لآليات التصديق المخادعة التي تخضع لها دون وعي بوجودها..

على مدى 25 صفحة من كتاب نظرية الفستق استعرضت آليات التصديق، وكيفية تبنينا للآراء والمواقف الشخصية.. هل تعرف مثلاً أننا نصدق ونتبنى (أول رأي) نسمعه قبل غــيره!!

وهل تعرف أنـنا نتبنى غالباً آراء أقــرب الناس إلينا ضمن دائرة الأسرة والمعارف والأصدقاء!!

هل تعرف أن طريقتك في التفكير والتصديق والحكم على الأشياء تتأثر بأكثر من 88 مؤثراً داخلياً وخارجياً (مثل مواقفك المسبقة، وخلفيتك المتعصبة، ومصلحتك الخاصة، وعلاقتك بالمتحدث، وعلاقتك بالسبب.. بل وحتى ما سمعته من جدك وجدتك قبل أربعين عاماً)!!

الجميل في الموضوع أن مجرد تنبهك لوجود شيء يدعى (آليات التصديق) يجعلك أكثر قدرة على الحكم على الأشياء بشكل محايد ومستقل، وبالتالي تخفيض نسبة الــ90 % التي أخذتها من غيرك.. لا تحتاج مثلاً للتمسك بأول رأي سمعته، أو تبني كل ما يقوله والدك وشقيقك لمجرد قربك منهما.. لا تحتاج لمن يخبرك بأهمية البحث في الأمور بطريقة منطقية محايدة بمعزل عن العواطف والأحكام المسبقة.. لا تحتاج لـتبني أو رفض الآراء بحسب الانتماء الثقافي والعرقي والمحلي.. تدرك الفرق بين حامل الرسالة (الذي قــد لا ينال إعجابك) وبين الرسالة ذاتها (التي قد تكون نافعة ومفيدة)..

.. يمكنك نسيان كل شيء بنهاية هذا اليوم، ولكن اطرح على نفسك دائماً هذا السؤال: هل صدقت لأنني جربت وقررت بنفسي، أم لأنني سمعته وتـبـنيتـه من غيري؟

بقلم: فهد عامر الأحمدي - الرياض