كاد أن يكون رسولا

يشيد أحمد شوقي بمنزلة المعـلم في قوله:

قــم للمعلم وفّـــه التبجيلا

كاد المعـلم أن يكون رسولا

وهذا البيت يمكن إعادة صياغته ليشمل - بالإضافة للمعلمين - حكماء وعظماء كادوا أن يصلوا لمنزلة الرُسل فعلاً.. صحيح أنهم لم يدعوا النبوة لأنفسهم، (وصحيح أن حرف «كـاد» ينقذنا من الإحراج)، ولكن المتأمل لسيرتهم لا يملك غير تقديرهم واحترامهم بصرف النظر عن أعراقهم وجنسياتهم..

سبق أن كتبت عن المناضل الهندي غاندي، وكيف هز أركان الإمبراطورية البريطانية بتبنيه سياسة العفو والتسامح.. عاش بين الفقراء وتخلى عن رئاسة الدولة، وعرض على الزعيم المسلم محمد جناح (مؤسس الباكستان) تولي زعامة الهند.. أيضاً سبق أن تحدثت عن علماء وأطباء مثل باستير وفلمنج وليستر وباتنج الذين قدموا للبشرية اكتشافات طبية أنقذت ملايين الأرواح دون تمييز - مقارنة بطغاة وجزارين أزهقوا ملايين الأرواح دون تمييز مثل نابليون وهتلر وجنكيز خان..

حين تتأمل سيرة المناضل الإفريقي نيلسون مانديلا لا يسعك سوى ضمه لقائمة من اقتربوا من أخلاق الأنبياء.. نشر بين شعبه ثقافة المحبة والتسامح رغم سجنه من قبل العنصريين البيض لــ27 عاماً.. وبدل أن يعمد للعنف والانتقام، تبنى سياسة العفو والمصالحة، وكان أول من عفا عن سجانيه حين انتخب رئيساً للبلاد.. وبهذه الأخلاق أنقذ بلاده من دوامة العنف والتطهير العرقي، وبنى مجتمعاً تعددياً يعيش فيه الجميع بسلام ووفاق..

ولد مانديلا العام 1918 في قرية مفيتزو، وأطلقت عليه معلمته الإنجليزية اسم نيلسون (بدل اسمه الإفريقي روليهلاهلا).. درس القانون وانضم لحزب المؤتمر الإفريقي المناهض للاستعمار والعنصرية، دخل السجن عدة مرات بتهم تراوحت بين الاعتداء والتظاهر والخيانة العظمى.. أصبح بفضل مواقفه الصلبة قائداً شعبياً حتى بعد الحكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم.. نقل العام 1962 إلى سجن انفرادي قضى فيه 27 عاماً، لم يرضخ خلالها حتى تحول إطلاقه إلى مطلب شعبي ودولي يرمز لتحرر السود..

وفي العام 1990 رضخت حكومة البيض وأطلق رئيسها دي كليرك سراح مانديلا.. وفور خروجه قـاد مانديلا مفاوضات مضنية (بصفته زعيماً لحزب المؤتمر الوطني) مع البيض لإلغاء نظام الفصل العنصري وإقامة انتخابات متعددة الأعراق، وفي العام 1994 نجحت جهوده في تنظيم انتخابات شملت البيض والسود والعرب والهنود والملاويين وفاز هـو بمنصب الرئاسة.. وبدل الانتقام من المسؤولين البيض عين دي كليرك نائباً له، ومنح وزارات مهمة لشخصيات أوروبية الأصل.. ارتفع فوق مشاعر الظلم والانتقام والكراهية ولم يكرر خطأ الدول الإفريقية التي تخلصت من النخب البيضاء وتسببت بحروب أهلية دمرت البلاد..

رفض ترشيح نفسه مجدداً لرئاسة البلاد وتفرغ لمبادرات السلام، فتوسط في مفاوضات بورندي، وانتقد أميركا على غزو العراق، وتوسط بين ليبيا وبريطانيا في تفجير طائرة البانام..

تحول خلال حياته إلى أيقونة للمحبة والسلام، ونال قبل وفاته (العام 2013) أوسمة تكريم من خمس عشرة دولـة.. وخلال تسلمه وسام التكريم في الهـند قال: جنوب إفريقيا هي من تستحق التكريم كونها استلمت غاندي كمحام وأعادته إلى الهند كمناضل.

بقلم: فهد عامر الأحمدي -  الرياض