ما لا تدركه من النعـم

النعم حولنا كثيرة ومستمرة ولكننا - ببساطة - لا نشعر بوجودها.. نعيشها بشكل دائم، ونتمتع بها بشكل مستمر، ولكن لهذا السبب بالذات نفقد الإحساس بها وتصبح بالتدريج من مسلمات الحياة.

فكل عضو في جسدك نعمة لا يشعر بها إلا من حرم منها.. بصرك، وسمعك، وحواسك، وحركتك، وذكاؤك، وقدرتك على التفكير.. جميعها نعم عظيمة لا يملكها بعض الناس.

(نِعـم) كثيرة تصبح بمرور الوقت حقوقاً بدهية ومسلمات طبيعية كالبيت والوطن والأسرة والوظيفة والشعور بالأمان.. رغم ملايين الناس المحرومين منها..

صحتك - وسلامة أبنائك من العاهات - نعـم حرمت منها كثير من الأسر.. عيشك في دولة توفر لك الرعاية والتعليم المجاني نعمة إضافية لا تتوفر في معظم الدول.. امتلاكك لسكن مكيف ومضيء ومياه نقـية (تخرج من الجدران بلا مجهود) أمر خرافي لا يتوفر لـــ700 مليون فقير حول العالم..

حين أتأمل تقرير التنمية البشرية (الذي يصدر كل عام من الأمم المتحدة) أكتشف أن 99 % ممن سيقرؤون هذا المقال يعيشون في نعمة حقيقية.. فملايين البشر حول العالم لا يجدون قوت يومهم، ولا يملكون مياهاً نظيفة، ولا رعاية صحية، ويسكنون بيوتاً من الصفيح، ويعيشون على 3 دولارات في اليوم، ويعانون من أمراض معدية أو مستوطنة..

وحتى لو افترضنا أنك أحد هؤلاء المسحوقين؛ هل تساوي كل هذه المصائب نعمة شهيق واحد تسحبه لرئتيك.. حتى لو كنت أثرى من كل البشر هل تساوي ثروتك كأس ماء ينقذك من الموت عطشاً في الصحراء..

في سبتمبر الماضي كتبت مقالاً عن لاجئ سوري كتب لي رسالة طويلة ختمها بقوله :"ويشهد الله يا أستاذ فهد أنني لا أحسدك على شيء مثل امتلاكك لوطن وتراب وهوية وجواز سفر".. هزني التعبير لأنني لم أفكر بهذا من قبل.. أرعبني مجرد التفكير في الحرمان من وطن أنتمي إليه، وأرض أعيش فوقها، وتراب أدفن تحته، وبلاد يعيش فيها أحفادي من بعدي.. هل فكرت فعلاً بنعمة الاستقرار والانتماء للأرض وعدم العيش لاجئاً أو مطارداً في بلد غريب؟ هل فكرت كيف سيكون مستقبل أطفالك من دون هوية وانتماء، أو كيف ستبني حياتك وتحصل رزقك وأنت مهدد بالرحيل في أي وقت؟

مشكلة النعـم - التي نتمتع بها - أنها بدهية وخجولة وقابلة للنسيان.. وحين ننساها، نندب حظنا على أمور أقـل منها شأناً وأهمية.. ولكن كلما ندبت حظك في الدنيا جرب كتم نفسك لنصف دقيقة فقط.. انظر لابنك واسأل نفسك عن حجم الثروة التي تعادل حياته.. انظر لوالديك واسأل نفسك عن قيمتهما في حياتك - أو حتى قيمة البصر الذي منحك فرصة رؤيتهما أحياء..

الحقيقية هي أنك لا تعيش فقط في نعـم لا يمكن إحصاؤها، بل وكنت محظوظاً منذ فزت في رحم أمك على 65 مليون نطفة كانت تتسابق معك لتلقيح البويضة..

وفي حال استيقظت غـداً من النوم، اعلم أن جميع النعـم السابقة امتدت صلاحيتها لأربع وعشرين ساعة قادمة..

بقلم: فهد عامر الأحمدي - الرياض