الجهل الاختياري

غزارة المعلومات هذه الأيام تحولت إلى مشكلة تتفاقم باستمرار.. يبدو هذا مثيراً للإحراج بعـد أن قضت البشرية معظم عصورها في جهل وأمية وشح معلوماتي فاضح. فمعارفنا في هذا العصر تتضاعف كل ثلاثة أعوام. وبحلول عام 2025 ستتضاعف المعلومات على الإنترنت 30 مرة عن حجمها الحالي، وحالياً يجب على المهندس والطبيب الذي يريد متابعة الجديد في تخصصه قراءة 4000 صفحة في اليوم، في حين بالكاد يطلع على مئة كتاب متخصص من عشرة آلاف كتاب ومليون موقع جديد تصدر في حياته!

ورغم أن هناك خبراء متخصصين في «مطاردة» المعلومات، ورغم أن الإنترنت تتضمن محركات بحث ماهرة في اصطياد المعلومة؛ أصبحت النتيجة النهائية لطوفان المعلومات الهائل أن المهندس يفشل في الإحاطة بالجديد في مجال عمله، والعالم يجتهد في بحث لا يعلم أنه موجود، والمخترع يكتشف أن اختراعه تكرر في أكثر من مكان، والمرضى يعانون من جهل الأطباء بأبحاث جديدة قد تنقذ حياتهم، وينسحب الأمر نفسه على المهندسين والفنيين والصيادلة ووو..

وحتى في حال افترضنا وجود من يقرأ هذه الأيام، لا يمكن للإنسان قراءة أكثر من ثلاثة آلاف كتاب خلال حياته كلها، وكي يحقق هذا الهدف عليه أن يقرأ ما لا يقل عن خمسين صفحة كل يوم أو كتاباً متوسط الحجم كل أسبوع.. وحين ينجح في ذلك يكون قد أضيف إلى المكتبة العالمية (خلال تلك الفترة) ما لا يقل عن عشرين مليون كتاب جديد.. ناهيك عن بلايين البايتات الداخلة لفضاء الإنترنت!!

وللوهلة الأولى لا يبدو هناك أي مشكلة من الناحية البيولوجية؛ فدماغ الإنسان قادر على استيعاب عشرة ملايين ملايين ملايين وحدة معلومات (تسمى بت).. يمكنه استيعاب الموسوعة البريطانية بأكملها دون أن تشغل سوى جزء يسير من قدراتـه. ولكن من جهة أخرى اتضح أن دماغ الإنسان لا يستوعب المعلومات إلا بنمط بطيء للغاية (بمعدل كلمة واحدة في الثانية). وهذا يعني أن من يقرأ عشر ساعات في اليوم طوال سبعين عاماً لا يستوعب من الرقم السابق سوى 30 ألف مليون وحدة فقط، هذا إذا افترضنا أصلاً قدرته على الاستمرار!!

وأمام هذا الطوفان المعرفي المرعب، من الطبيعي أن يختار أبناء هذا الجيل (والأجيال القادمة بالتأكيد) الجهل الطوعي كحـل قليل التكلفة.. سيختارون راحة البال والدخول بإرادتهم تحت الشطر الثاني من بيـت المتنبي:

ذو العقلِ يَشْقَى في النَّعيمِ بِعـقلِهِ .. وأخو الجَهَالةِ في الشَّقاوَةِ ينعـم.

بقلم: فهد عامر الأحمدي - الرياض