في الفساد والممانعة!

من الواضح أن الفساد والكسب غير المشروع، هو نتيجة طبيعية لعدم تفعيل دور الأجهزة الرقابية. ويجب أن نعترف أن دورها لا زال محدوداً، وليس كما ينبغي، ولم يصل بعد إلى مستوى التطلعات..

الفساد يسبب خللاً وانقساماً في طبيعة الحياة الاجتماعية ونموها، ويعكس حالة من الانفصام الطبقي ويجعل العلاقات المجتمعية ميتة وموحشة من الداخل لأن الفوارق وضياع العدالة الاجتماعية يفتك بالمنظومة المجتمعية. الفساد بأشكاله وأنواعه المختلفة كان موجوداً في كل العصور فالقراءة السوسيولوجية والمعرفية، ترى صوره تشكلت نسبياً في مرحلة تراكمية بدءاً من العصور البدائية، فالقبيلة والعشيرة، ومروراً بالدولة القطرية والتكتلات الإقليمية وانتهاء بالمفهوم العولمي. محاربة الفساد بكافة ألوانه وطرائقه، بات أسلوباً شائعاً في عصرنا الراهن وتحول لظاهرة استشرت عدواها إلى البلدان الصناعية والنامية على حد سواء.

إدراك قيمة الوعي بمخاطره في عصر توفرت فيه وسائل الاتصال والمعرفة بات ضرورة ملحة من أجل مستقبل أجيالنا، فضلاً عن أهمية حضور القرار السياسي لأنه أثبت وبالدليل القاطع أنه قادر على إحداث التغيير متى ما أراد ذلك بغض النظر عن الممانعة من الأطراف المستفيدة. أسلوب الحزم لم يكن شعاراً بل تحول لمنهج تمارسه الدولة في التعامل مع أي فئات تتجاوز الخطوط الحمراء بارتكابها أفعالاً مجرمة شرعاً وقانوناً.

سمو ولي العهد قاد في الأسابيع الماضية حرباً ضد الفساد في خطوة غير مسبوقة في تاريخ المملكة في تاريخها الحديث المعاصر. هناك صحوة ضد الفساد في السعودية وإن كانت العبرة بالنتائج والقدرة على اجتثاث جذور هذا الوباء. التحدي الأكبر للإرادة السياسية يكمن في خلق بيئة شعبية في مواجهة الفساد وليس الركون إلى المعالجات المؤقتة. وقد بدأت القيادة فعلاً في إحداث الهزة المطلوبة بخطورة الفساد ومواجهته والآن يفترض أن يكون الولوج إلى مأسسة هذه المواجهة عبر قوانين وإجراءات وآليات تدفع باتجاه لمواجهة هذا الخطر الحقيقي. الشفافية تقتل الفساد وتتلاشى الممانعة بالوعي المجتمعي. محاربة الفساد لتكون ناجعة عليها أن تكون غاية وضمن آلية محددة وواضحة لا تتساهل مع أي كان، فالقانون فوق الجميع ويجب أن يبقى كذلك دائماً وهذا ما أكده ولي العهد في حديثه للكاتب الأميركي فريدمان قبل أيام.

المعركة ضد الفساد كانت حديث العالم بلا مبالغة وأصبحت العنوان الأبرز في وسائل الإعلام العربية والغربية. ولعل أهم ما ذكره الأمير محمد أن نسبة 10 % من الإنفاق الحكومي تلتهمه أصابع الفساد وهو رقم كبير يُفقد بغير وجه حق. من الواضح أن الفساد والكسب غير المشروع، هو نتيجة طبيعية لعدم تفعيل دور الأجهزة الرقابية. ويجب أن نعترف أن دورها لا زال محدوداً، وليس كما ينبغي، ولم يصل بعد إلى مستوى التطلعات ولذلك من الصعب إيجاد بيئة إدارية ومالية نظيفة ونزيهة في ظل عدم وجود أنظمة واضحة وصارمة تطبق على الجميع. ولكن يجب أن نعترف أن مواجهة الفساد قبل 4 نوفمبر تختلف عما بعده بدليل التفاعل والترحيب الشعبي والإعلامي.

هناك دراسات وأبحاث ترى أن جريمة الكسب غير المشروع تُعد من أخطر الجرائم لأنها استثمار للوظيفة العامة وإثراء غير مشروع ولها آثار سلبية على الاقتصاد الوطني أضف إلى ذلك أن مرتكبي هذه الجريمة هم من العاملين في جهاز الدولة يمكنهم من إخفاء معالم هذه الجريمة في ظل وجود رقابة إدارية غير فاعلة. هناك ضرورة للنص صراحة على هذه الجريمة في النظام السعودي، وتجريم كافة صورها لا سيما وأن المملكة انضمت لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد وصادقت عليها، وهي اتفاقية ملزمة حيث تنص على ضرورة اتخاذ تدابير تشريعية لمواجهة الفساد.

حتى ننجح في مواجهة هذه الجريمة الخطيرة فالبداية تكون مع وجود نظام يجرم الكسب غير المشروع بالإضافة إلى ذلك يجب علينا تفعيل دور الأجهزة الرقابية وتوسيع تعاملات الحكومة الإلكترونية في المجتمع، وتنفيذ العقوبات بالمحاسبة والتشهير.

وأخيراً إعادة النظر في الأوضاع المادية والمعيشية للموظفين وبخاصة من هم في المراتب المتوسطة والدنيا.

ثقافة الممانعة أُصيبت في مقتل بالخطوة الاستثنائية التي قامت بها الدولة في مواجهة الفساد والتي رسخت سلوكاً ومفاهيم وممارسات تحولت مع الوقت لأعراف سائدة اعتاد المجتمع على قبولها في عمقه وتركيبته الثقافية والفكرية ما ساهم في تشويه الحياة الاجتماعية ونخر الاقتصاد الوطني وضياع الحقوق.

بقلم: د. زهير الحارثي - الرياض