في انتظار الإنسان الجديد

في الماضي لنقل قبل خمس عشرة سنة من سنتنا هذه ما كان باستطاعتي أن اكتب هذه الزاوية إلا في مكتبي في بيتي. يعود السبب إلى حاجتي المستمرة إلى بعض المعلومات الصغيرة المهمة كتاريخ معركة أو اسم عالم أو مدينة الخ. على مدى سنوات زودت مكتبتي المنزلية بأهم الموسوعات والمراجع التاريخية وكثير من الكتب المرجعية. كتابة الزاوية في ذلك الوقت تأخذ مني حوالي اربع ساعات. أحيانا كنت التف على المعلومة لكي اتجاوزها نتيجة ضيق الوقت أو عدم توفر هذه المعلومة. تصرف كهذا يترك النص مليئا بالثقوب ويضعفه.

اليوم أستطيع ان اكتب في أي مكان فيه واي فاي. أصبح بين يدي معلومات ومراجع اكثر مما احتاج (أكثر بآلاف المرات). بخلاف التوفر صرت أوفر الوقت. أحيانا لا تأخذ الزاوية مني أكثر من ساعة. لا يؤخرني إلا مرحلة إعادة بناء النص حتى يصبح مقروءا من القارئ العادي وسهلا. لكن لكل شيء ضريبته. وقعت في مشكلة أخرى تتعلق بشغف المعرفة والفضول. انتقلت من غوغل إلى اليوتيوب. إذا صدف أن احتجت إلى تاريخ أول سيارة سارت على الطريق على سبيل المثال اجد نفسي أمام سيل من الوثائق التي تصور وتوثق الحدث. 

المعلومة الصغيرة تلقي بي في معلومات تغير من توجه النص الذي اكتبه. اضطر بدوافع من أهمها الفضول والمتعة أن اتفرج على وثائق مدة ساعة أو ساعتين. اكتشفت أن معرفتي التي تتراكم يوميا هذه الأيام تتجاوز ما أراكمه أشهر في الأزمنة الماضية، واكتشفت ما هو أخطر: ان كثيرا من معلوماتي السابقة لم تكن موثوقة تماما. اليوم صرت احصل على وجهات النظر المتضادة. على سبيل المثال كنت اظن أن معلوماتي عن الحرب الفيتنامية صحيحة وكافية بيد أن اليوتيوب فاجأني بأشياء كثيرة لم اعرفها ابدا. عشت سنوات طويلة ضحية لوجهة نظر الأمريكية ولكني اليوم سمعت الفيتكونغ يتحدثون عن أنفسهم. 

بفضل الوثائق المتنوعة في اليوتويب تنوعت مصادر معلوماتي. لم اعد رهينة لمنظور الإعلام الغربي أو المحلي. تحسنت قدراتي على قراءة الاحداث وتوسع استقلالي. لأول مرة تقترن المتعة مع المعرفة في حياتي. صار من ضمن برنامجي اليومي أن اتفرج على البرامج الوثائقية على الأقل ساعة في اليوم. كل المعارف التي حصلت عليها في زمن الشباب وطلب العلم اعدت النظر فيها. أبحث عن الطرف الآخر الذي كان مغيبا عني. في السنوات الثلاث الماضية شعرت أني انتقلت إلى وعي جديد.

مهما كان الإنسان ذكيا يبقى أسير السلطة الأيديولوجية والإعلامية السائدة ولكن هذا صار في طريقه إلى الانتهاء. في السنوات العشر القادمة (أتوقع) أن تختفي سلطة الفكر الواحد مع تضاؤل سلطة المصدر الواحد. أتوقع في العشرين سنة القادمة سنواجه إنسانا لم يعرفه التاريخ من قبل.

بقلم: عبدالله بن بخيت - الرياض