الحرب على العقول وقوة الإقناع

تأمل الشاشة التي أمامك جيّدا، ولا تنجرف بسرعة للفكرة المباشرة قبل أن ترصد المغزى من النص أو الصورة التي أمامك. كانت هذه الجمل القصيرة افتتاحية ورشة تدريبية أمام مجموعة متخصصين في الاستراتيجيات وبناء الخطط. كانت الورشة ومحاورها حول مهارات الاتصال والقوة الناعمة في عصر الشبكات الاجتماعية. وقد اتفق معظم المشاركين على أن كثيرا من القناعات الشخصية التي عاشوها والتزموا بها في حياتهم وسلوكهم لم تعد بذات القوة، بل إن كثيرا منها تغيّر بزوايا معاكسة. والتفسير السهل السريع هو أن ما حصل كان نتيجة تلقائية لقوة التأثير التراكمي للإعلام ووسائل التواصل وتراجع دور المراجع المجتمعية التقليدية التي هيمنت على مهمّة فلترة وتأطير الأفكار عقودا طويلة.

والثابت أن عملية بناء وتشكيل القناعات وحتى زراعة الأفكار تطوّرت بتطور أدوات الصراعات الدينية والاقتصادية والسياسية حتى وصلنا إلى حالنا اليوم مع هذا التشابك الاتصالي الرهيب. وحرب الأفكار (الإقناع) أو الدعاية بقيت في استراتيجيات الحروب بمثابة الركن الرابع في مزيج معادلة الصراعات المعاصرة جنبا إلى جنب مع الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية.

على سبيل المثال تكشف الصورة الكبرى للحربين الغربيتين الأولى والثانية عن أن الغلبة كانت من نصيب الدول التي وفّرت مئات الآلاف من الجنود المدجّجين بالأسلحة والطائرات. وهذا صحيح ولكن الحقيقة أيضا أن العمليات الاستراتيجية المخططة لتغيير وزراعة الأفكار كانت ترافق الجهد العسكري وتدير معاركها الفكرية بشكل شرس سواء لحشد الناس (في الداخل) نحو دعم المجهود العسكري، أو إضعاف عزيمة الخصوم (في الخارج) ضمن مفهوم قوة الإقناع (Power of Persuasion).

ولعل "هتلر" من ممن أدركوا أهمية الدعاية وحرب الأفكار بعد إذلال ألمانيا في الحرب الغربية الأولى ولهذا أنشأ وزارة التنوير والدعاية. ويستذكر الأميركيون بشيء من الألم كيف استقطب النازيون فتاة المسارح الأميركية Mildred Gillars سنة 1934 لتعمل لصالح الدعاية الألمانية عبر الإذاعات الموجهة للجنود الأميركيين بحواراتها وتمثيلياتها المؤثرة التي تركّز على تذكير الجنود الأميركيين بالوطن والزوجات والأطفال وعبثية الحرب. في المقابل تسابق أعداء هتلر وحلفاؤه لضخ المزيد من الجهود في الدعاية المضادة بحسب المتوفر حينها وكانت الصحف والمنشورات والإذاعات الموجهة بمختلف اللغات وسائلها الأشهر للتأثير على الشعوب الواقعة في محاور الصراع.

وسيأتي يوم من التاريخ القريب ويكتب باحث عن أسرار أدوات عصرنا ودوافع إنشاء ودعم عشرات القنوات والمواقع والخدمات المستعربة من الدول الكبرى وستنكشف أوراق ومشروعات مذهلة.

بقلم: فايز الشهري - الرياض