شرائع غير إلهية

القوانين والشرائع محاولة لتحقيق العدالة وتنظيم المجتمعات.. يؤكد ابن خلدون صعوبة عيش البشر بلا حكومة، واستحالة وجود الحكومة بلا قوانين وشرائع وتنظيمات..

والغريب فعلا أن القوانين قد تكون ظالمة (وأحيانا غبية وساذجة) ومع هذا تؤدي دورها في تحقيق النظام وفرض السلطة.. حين نتحدث مثلا عما يسمى بأحكام قراقوش (التي اشتهرت كنموذج للأحكام الحمقاء والظالمة) تكتشف أنها تؤدي في النهاية هذا الدور.. على الأقل بسبب حرص الجميع على ألا يكون ضمن ضحايا قراقوش..

ولأن المجتمعات البشرية تتطور باستمرار.. ولأن أعرافها وتقاليدها ليست إلهية أو مقدسة؛ من الطبيعي أن تكون عرضه للأخطاء والتجاوزات وتفاوت النظرة.. من الطبيعي أن نراها اليوم غريبة أو ساذجة في حين أنها وضعت لأسباب جادة في عصرها.. ففي العصور الوسطى مثلا كان الناس يؤمنون بإمكانية تحويل النحاس والرصاص إلى ذهب من خلال عمليات كيميائية معينة.. وبناء عليه وُضع في انجلترا قانون (موجود حتى يومنا هذا) يقول نصه: "يمنع على عموم الناس تحويل المعادن إلى ذهب لأن فعلا كهذا يجب أن يكون حكرا على الملك وعائلته فقط"!

غير أول قوانين بشرية مكتوبة لم تظهر في إنجلترا، أو أوروبا بل في العراق.. في الفترة الآشورية بالذات ظهرت تشريعات كثيرة نعرف منها اليوم مخطوطة أورنامو، ومخطوطة إشنونا، ومخطوطة لبت إشتار.. وقبل سنوات قليلة فقط اكتشف علماء الآثار نقوشا لقوانين خاصة بملك سومري يدعى أورنمو يعود تاريخها إلى 2100 عام قبل الميلاد..

ومع هذا مازالت "شريعة حمورابي" هي الأكثر شهره كأقدم الشرائع المكتوبة في التاريخ. كتبت في بابل قبل 1790 من الميلاد واشتهرت بسبب بساطتها وشموليتها واعتمادها على مبدأ القصاص بالمثل (العين بالعين والسن بالسن والأنف بالأنف).. أضف لذلك كانت سهلة التذكر وتملك عقوبات يصعب نسيانها.. فزنا المحارم مثلا ينتهي بإحراق الاثنين حتى الموت، وإذا تآمر عاشقان على قتل الزوج فالعقوبة موتهما بالخازوق، وإذا هرب الجندي من الجيش يمشي عليه زملاؤه حتى الموت، وإذا ضرب الابن أباه -حتى لو كان ذلك دفاعا عن النفس- تقطع يده..

عيبها الوحيد كان تمييزها بين العبيد والأسياد، والرجال والنساء (فحين يخون الرجل مثلا زوجته لا يتم إعدامه مع عشيقته على الخازوق).. أما أبرز نقاط تفوقها فكانت وضعها لمبدأ البراءة الشهير والمعمول به حتى اليوم: "المذنب بريء حتى تثبت إدانته"..

بقي أن أشير إلى أن "شريعة حمورابي" كتبت على مسلة صخرية وضعت في ساحة المدينة يبلغ طولها 2,5 متر وتزن أربعة أطنان.. غير أن هذا اللوح فقد لمدة ثلاثة آلاف عام حتى اكتشفت مجددا عام 1901 في مدينة سوسا في إيران (حيث يعتقد أنه نقل من بابل في القرن الثاني عشر قبل الميلاد).. واليوم يستقر هذا اللوح في متحف اللوفر في باريس، ويعد علامة فارقة في تاريخ البشرية كونه أبرز محاولة موثقة لحفظ الحقوق وتنظيم العلاقات وظهور المجتمعات البشرية..

بقلم: فهد عامر الأحمدي - الرياض