ماذا ستختفي الحروب مستقبلاً؟

أتوقع اختفاء الحروب في المستقبل القريب.. أتوقع اختفاءها ليس لسبب إنساني أو أخلاقي بل لسبب اقتصادي وديمقراطي وعقلاني. ستختفي كمواجهات بين الدول القوية، وستختفي كحروب استنزاف وبقاء دائم، وستختفي لأن حكومات العالم أصبحت أكثر وعيا بتأثيرها السلبي على الاقتصاد والمجتمع..

فـالمواجهات المباشرة بين الدول القوية (التي تملك أسحلة دمار شامل) كفيلة بتدمير الطرفين دون هزيمة أو انتصار.. حين زار خروتشوف أميركا في عقد الستينيات قال له الرئيس كيندي "لدينا أسلحة نووية يمكنها تدميركم خمس مرات" ضحك خروتشوف وقال "ونحن لدينا أسلحة نووية يمكنها تدميركم مرة واحدة فقط"..

وفي المحصلة لم يتواجه الطرفان خلال تاريخهما كله، ولكنهما خاضا حروبا بالوكالة تحملتها الشعوب الضعيفة (في كوريا وكوبا وفيتنام وأفغانستان والشرق الأوسط)..

في عصرنا الحالي لم يبق غير الحروب السريعة ذات النتائج المضمونة.. حروب يشنها طرف قوي جدا (كأميركا أو روسيا) ضد طرف ضعيف جدا (كالعراق أو الشيشان) وحتى في هذه الحالة يحرص القوي على عدم تحولها لحرب استنزاف (كما حصل لأميركا في فيتنام)..

فحروب الاستنزاف تجبر الأنظمة الديمقراطية على التراجع والانسحاب للحد من خسائرها البشرية والاقتصادية.. فأميركا انسحبت من فيتنام لأنها لم تتحمل خسارة 57 ألف جندي، في حين اعتبر الفيتناميون أنفسهم منتصرين رغم دمار بلادهم وخسارتهم مليوني جندي..

ومن وجهة نظر اقتصادية تعد الحروب الحديثة مكلفة اقتصاديا ــ ولم تعد مربحة كما كانت أيام الغنائم والعبيد وسبي النساء.. في الماضي كانت الفتوحات الشاسعة (بأسلوب جنكيز خان والاسكندر الأكبر) من علامات القوة والمجد وتتحمل الشعوب المقهورة تمويلها.. أما في عصرنا الحاضر فتتحمل كلفة تمويلها الشعوب المتحضرة التي تملك صوتا انتخابيا مسموعا..

أصبحت الحروب تخضع لمعايير الاقتصاد وحسابات المرشحين وموازين الربح والخسارة (الأمر الذي يجعل الدول الحديثة تفكر ألف مرة قبل خوضها)..

ومن هذا نستنتج أنه حتى الأطراف القوية لن تتورط مستقبلا في حروب مكلفة لا تخصها، أو لا تخدم مصالحها ــ بدليل عزوف أميركا عن التدخل مباشرة في الصراع السوري..

وحتى حين تفكر الدول العظمى بمصالحها القومية ستلجأ غالبا لخيارات سياسية أقل كلفة.. راجع نزاعات أميركا الأخيرة ستكتشف أنها حققت من خلال المفاوضات والضغوط والتحالفات والاتفاقيات السرية مكاسب لم تحققها من تدخلها العسكري في فيتنام وأفغانستان والعراق (التي وقف خلفها لوبي الأسلحة)..

كل هذه العوامل ــ المعارضة للحروب المباشرة ــ فرضت تحولات حتى في طبيعة الأسلحة ذاتها .. فأسلحة المستقبل ستتجاوز البندقية والرشاش لصالح الاختراقات الإلكترونية والصواريخ البالستية والطائرات الموجهة (بدون طيار).. أصبحت الحروب الإلكترونية سلاح الصين وكوريا الشمالية، في حين دخلت أميركا وإسرائيل مجال الأسلحة الموجهة عن بعد..

فأميركا تملك طائرات (بلا طيار) أشهرها براديتور يتم التحكم بها من الأراضي الأميركية لقصف المواقع الأجنبية ــ في باكستان وأفغانستان واليمن وسورية والعراق.. أما إسرائيل فتملك طائرة من الجيل الرابع تدعى هيرون تغطي كافة الدول العربية ويمكنها التحليق لــ52 ساعة وحمل 250 كلغم من الأسلحة (ونجحت في تصديرها إلى عشرين دولة من بينها فرنسا وكندا وتركيا والهند)..

من كل كهذا نكتشف أن المستقبل سيكون خاليا من الحروب التقليدية (ليس لسبب إنساني أو أخلاقي) بــل لأن الحروب:

تنتهي بإضعاف الأطراف القـوية..

ولأنها غير مربحة اقتصاديا (وقـد تتحول لحروب استنزاف)..

ولأن هناك أساليب أقـل كلفة منها (كالمفاوضات والضغوط والاتفاقيات السرية)..

وبسبب ارتفاع الوعي بالخسائر البشرية والتنموية (خصوصا في الدول الديمقراطية)..

ولظهور تقنيات تغني عن المواجهات المباشرة (كالحروب الإلكترونية والطائرات الموجهة)..

.. والحقيقة هي أن مظاهر "المستقبل" بدأت تتبلور في وقتنا الحاضر.. فـالمعارك المباشرة بدأت تختفي بين الدول الديمقراطية، والصراعات التقليدية أصبحت محصورة في منطقة الشرق الأوسط، والميلشيات الطائفية تم عزلها داخل قناعاتها الأيدلوجية واعتقادها أن قطع الرؤوس، وسبي النساء يمكنهما بناء الأمم العظيمة..

بقلم: فهد عامر الأحمدي - الرياض