أساطير تـخلق بيننا

في طفولتي كنا نسكن منزلا يطل مباشرة على "موقف العطن" في المدينة المنورة.. كان المكان يعج بالمسافرين والمقاهي وأعداد لا تحصى من الزوار وسيارات الأجرة المسافرة لـمكة وجدة..

كانت أبواق السيارات وصراخ القهوجية يختلطان مع غناء أم كلثوم وسميرة توفيق وفوزي محسون.. وذات يوم اخترقت حشد السيارات متوجها لـبيت جدتي حين اعترضتني سيارة أجرة سألني سائقها بلا مقدمات: "صحيح أم كلثوم ماتت؟" قلت "إيوه صحيح" فتـمتم قائلا "الله يرحمها كانت رفيقتي في الخط" وعلى أمل مواساته قلت: "لكن أحمد اليماني (وهو قهوجي معروف للجميع) يقول إنهم أخذوا حنجرتها وركبوها لفايزة أحمد" فتهللت أساريره وقال "الله يطمنك ياشيخ"!

هذه الحكاية أتذكرها جيدا بسبب شائعة حقيقية انتشرت بين الناس مفادها أن حنجرة أم كلثوم استخرجت بعد وفاتها (عام 1975) لزراعتها في بلعوم احدى المطربات. وفي ذلك الوقت صدق الناس هذه الشائعة وبدت لي (كما بدت للجميع) حقيقية جدا.. ولكنها في الحقيقة مجرد نموذج لظاهرة اجتماعية تتشكل في المجتمعات المدنية وتعرف في علم الاجتماع بــ(أساطير مدنية حديثة) أو UrbanLegends.

فالأساطير ليست فقط أحداثا خرافية وقعـت في الماضي البعـيد (كما يشير معناها الفلكلوري التقليدي) بل تتوالد باستمرار وتـتشكل خلال حياتنا اليومية. ورغم أن معظم الأساطير الحديثة تـُنسى بسرعة (مثل ادعاء وجود الزئبق الأحمر في مكائن الخياطة، وظهور صورة صدام حسين على وجه القمر يوم وفاته) تعـمر بعض الأساطير قرونا طويلة وتـتحول إلى اعتقادات مقدسة بمرور الزمن (كتابوت العهد، وكفن تورين، وبكاء تماثيل مريم العذراء.. وأساطير أخرى تخصنا يظن الناس أنها من عماد الدين)..

وأول من تنبه لتشكل الأساطير المدنية في حياة الناس اليومية البروفيسور جانهارولد الذي ابتكر عام 1981 مصطلح Urban Legends في كتابه "أساطير أميركية حديثة". وبسرعة تنبه علماء الاجتماع الى أن الأساطير لا ترتبط بالضرورة بالعصور الماضية بل يمكن أن تتشكل أمام أعينهم في العصر الحاضر (بناء على التوجه السائد في العصر ذاتـه). وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن الأطباق الطائرة، والمخلوقات الفضائية، وحكومة العالم الخفية نماذج لأساطير مدنية حديثة لبست الثوب العلمي والعالمي لهـذا العصر.. ولأن تناقلها يتم بطريقة (فـلان عن فلان عن فلان عن فلان) يصعب تتبع مصدرها أو تاريخ ظهورها لأول مرة!

.. وخلق أسطورة حديثة ناجحة يتطلب ــ على الأقل ــ اجتماع أربعة عناصر هي:

سردها كـقصة غريبة أو خارقة بحيث تثير دهشة المستمع وتضمن انتقالها من خلاله..

والثاني: تضمينها لشخصيات حقيقية أو نقلها على لسانهم الأمر الذي يعطيها ثـقلا ومصداقية!

والثالث: ألا تتعارض مع اعتقاد ديني أو موقف اجتماعي راسخ (كي لا تقتل في مهدها أو يتحرج الناس من سردها)..

والرابع: أن تتفق مع قناعات الناس المسبقة (كرؤية قبر يشتعل في صاحبه، أو شاب شلت يـده حين رفعها على والدته) بحيث يتناقلها حتى من لا يصدقها (على سبيل العظة)..

.. وخلال الأيام القادمة ستلاحظ بنفسك هذه العناصر في وسائل التواصل الاجتماعي..

بقلم: فهد عامر الأحمدي - الرياض