من هو المتدين حقاً؟

هذا سؤال مطروح بقوة على مستويات متعددة، ويأتي هذا بصيغ مختلفة، منها الاستفهامي، الذي يطلب حقيقة المعنى في ادعاء فج لمجتمع من المجتمعات أنه الأقرب إلى التدين، مما يعني بالضرورة أنه الأقرب إلى الله، لذلك لديه ميزان القيم الذي يحكم به على الآخرين!

ومنها استنكاري يغوص في عمق إشكال مزاوجة الشكل والمضمون، بمعنى أنه تدين ينزع إلى التمظهر بالدين أكثر من كونه حقيقة ماثلة في القيم والأخلاق التي يعبر عنها سلوكه ويتصف بها واقعاً حياً يشهد عليه الآخرون من غيرهم.

ومنها تقريري، بمعنى أنها تأتي لتقرر بما يقترب من الإثبات المطلق بتميز هذا المجتمع عن غيره دينياً، مستنداً في ذلك على التباسه بالنظم الإسلامية المشمولة في الشريعة الإسلامية المطبقة أو القوانين المشتملة على الشريعة، خصوصاً في قوانين المجتمع المدني والأحوال الشخصية، بغض النظر عن حقيقة تمسك الإنسان بقيمها واقعاً، على اعتبار أن الناس لا يمكن أن يجتمعوا على قلب رجل واحد، فهم متفاوتون في الصلاح والفساد، بمعنى أن الإنسان متقلب الأحوال لأن قلبه مرهون بين إصبعين من أصابع الرحمن، لذلك لا يمكن أن يقاس تدينه بالممارسة الفعلية، بمعنى أن تدينه من عدمه يحكم عليه جملةً لا تفصيلاً.

بعضهم يرى أن الحكم على حقيقة التدين تنبع من أدواته، سواءً أكانت مقررات التعليم أم القنوات الموجهة له كالمشايخ والوعاظ، ومع هذا لم نصل منطقاً وعقلاً بعيداً عن الرؤية الاصطفائية للذات إلى حقيقة تدين المجتمع، هذا متى استبعدنا الجانب العقدي الذي وجدت بعض المجتمع نفسها منساقة ومنجذبة بشكل مدروس ومقنن على نحو «ما» إلى رؤية أحادية المنبع، مختصرة في عدد من كتب التوحيد ذات المنهج الواضح، تلك التي أماطت اللثام عن أعوص القضايا العقدية التي يحير فيها لباب العباد، وتتيه في فيافيها عقول الزهاد، وهذا في مجمله أمر محمود، إذ جرد الدين من لوثة الانسياق وراء ميل القلوب إلى غير الله، وانتزعها من محبة غيره من الأولياء والصالحين إلى محبته، وهذا منتهى الحرية العبودية، التي تقوم فلسفتها على مفهوم تجريدي ورمزي لعلاقة الأرض بالسماء، وعلاقة أهل الأرض بينهم، فمتى استحكم الظلم بين العباد لا يمكن أن يستصغروا أنفسهم، ويرهنوها إلى سلطات الأرض العليا، تلك التي يحلو لها الاستواء على عرش الإله، وتأمر بأمره ليسبغ عليها طقوساً شعائرية تقرب الإنسان من العبادة والاستسلام المطلق، تلك التي دفعت بالناس في عصر من العصور التقرب إلى الصالحين والأولياء والتبرك بقبورهم، فأصبح الاتجاه يتعمق استكانة واستخذاء باتجاه باطن الأرض كتعبير رمزي آخر عن رفضهم لجبروت الإنسان الذي نصب نفسه إلها لفرط القوة التي اكتسبها بالبطش، هذا ما انتصرت به المدرسة العقدية التوحيدية لمدرسة مثل مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وخففت عن الناس عبء الخرافات العقدية، ولكن هل يكفي هذا لتجسيد قيم الدين كاملة ليستحق أي مجتمع وسام التدين من دون غيره من مسلمي الآفاق.

حقيقة لا أستطيع كما لا يستطيع غيري الإجابة عن هذا السؤال من دون قراءة الظاهرة الدينية الحديثة بشموليتها، ولكي يتسنى لنا ذلك فلا بد لنا من وضع بعض المقدمات، من أهمها: أن الدين الإسلامي جاء لتخليص الإنسان من العبودية لغير الله إلى العبودية لله وحده لا شريك له، كما قال ربعيُّ بن عامر - رضي الله عنه - لرستم قائد الفرس لمّا سأله: ما جاء بكم؟ فقال له: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام»، وبهذا يطلق قواه الكامنة للإبداع ويحررها من القسر الإنساني الوضيع إلى عمارة الأرض وبناء الحياة وفق ميزان عادل لا يفرق بين البشر. التفرقة التي تعني الميل المؤدي إلى حال جاهلية تسقط معها كل الموازين وتتدحرج متى استمرأ الإنسان تجبره إلى هاوية الاستعباد، لذلك فإننا داخل تقسيمات المجتمع العرقية والجهوية والطائفية تزل أقدامنا أحياناً إلى خانة التمايز المفضي إلى كريهة التكبر أو التجبر واستعداء الآخرين تجاه بعضهم البعض، تحت قيم الاصطفاء الذاتي التي لا يمكن أن تقرَّ إلا بقرينة دالة تنم إما عن خَلق أو خُلق، فإن كان خُلقاً حسناً فهو من اصطفاء الله للإنسان بشيء منه، أما إن كان من خَلق كتمايز الدم والعرق والارتفاع به عن الغير فهو من اصطفاء الإنسان لنفسه بشيء من خصائص الإله الذي ليس كمثله شيء، أما اصطفاء الطائفة لنفسها خارج ما جاءت به الشريعة من مستحدثات البشر لأنفسهم فهو تحايل على قيم الشرع الحقيقية؛ لإضفاء صبغة دينية بشرية تمجيدية فائضة عن المقاصد الحقيقية للدين، وبها ينزلق إلى معنى من معاني العبودية لغير الله، أي إرجاع الإنسان لحال من العبودية لغيره تحت مسميات وصفات دينية لا تمت إلى حقيقته التي جاءت من عند الله بصلة. كالمذاهب التي تصنع من الصالحين والأئمة وسطاء إلى الله في تحصيل مبتغياتهم الدنيوية.

الأمر الآخر هو ما يتعلق بالبناء الإنساني التطبيقي للقيم الدينية الحقيقية، فعلى رغم أن بعض المجتمعات لا تزال ملبوسة حتى أخمص أقدمها بالدين ظاهرياً، فإنها بالكاد تعبر عن مضامينه الحقيقية عملياً في حياتها اليومية، ليظل الكلام المشمول بالوعظ والإرشاد مجرد بضاعة تعرض على المسامع يومياً بما يشبه إثبات الحضور الدائم والمتكرر من خلال كل الوسائل المسموعة والمرئية، في كثير منها لا يصادق عليها واقعها العملي مثل الصدق والأمانة والستر والإتقان والإحسان والبر والصبر وحسن الظن والعفو والإيثار والابتعاد عن الفحش، فترانا في كثير من الأحيان خصوصاً مع وسائل الاتصال الحديث نسارع إلى كشف العورات، ونتهاون في أداء الواجبات، ونقطع أرحامنا، ونمعن في التراخي والكسل عن أداء ما أوكل إلينا، حتى ظهرت بيننا تعديات مشينة من أناس محسوبين على الدين، هذا عدا التخويف من كل شيء والتخوين عند عمل أي شيء، وبات أمرنا في شتات يحار فيه الفطن، وأمام كل هذا التدين تحدث الكوارث، شباب ينساقون إلى حمأة الإرهاب، وآخرون إلى مستنقع التفكك والتفلت من ربقة الدين، مع أنهم مغرقون بظواهره السمعية والبصرية، ثم نسأل عن مدى تأثير كل المناهج التي تمرر عبر كل القنوات والوعاظ الذين لا يفتأون يحدثوننا بمضمونه ترغيباً وترهيباً، أمام غلواء هذه الظاهرة الدينية يحق لنا أن نسأل، أين هو الدين الذي جاء في أساسه متمماً لمكارم الأخلاق التي شيدت أمجاداً وحضارات ووسم بها العالم الإسلامي وبات في عصر من العصور نبراساً له؟ إن أجبنا عن هذا السؤال سنستطيع الإجابة عن السؤال القديم الحديث، لماذا نحن اليوم في مؤخرة الصفوف؟

هذه النوع من الأسئلة يصدمنا بواقعنا ويكشف عشوائيتنا الأخلاقية، وحقيقة تدين المجتمعات الإسلامية التي لم يتبق منها سوى ممارسات شعائرية لا روح فيها، ولا يصادق عليها ادعاؤها الفج بأنها مجتمعات متدينة. فإن كانت غاية الدين في عصر المتنبي حف الشوارب، فغاية الدين التي يريدها بعضنا اليوم هي «تشخيص» يوصل بعضنا إلى مآربه أو «انسياق» غوغائي خلف سدنته الممثلين لتياره الطاغي.

لنبحث جميعاً عن مكمن الخلل، على الأقل لأجل أجيالنا المقبلة، ربما نحتاج إلى ثورة تصحيحية «نسقية» لأخلاق الناس يؤخذون عليها قسراً، وتنزعهم حمأة التبعية الكهنوتية لوعاظ هذا الزمان من تجار الكلمة وبائعي الوهم الديني، ولتكن البداية بقوانين رادعة توزن فيها أخلاق الناس كما توزن المعادن الثمينة، وأن يكون العمل والإنجاز الذي يدفعنا إلى الإمام من داخل أطر شريعتنا السمحة هو المعيار الحقيقي عند التصحيح، لا أن يكون تصحيح سلوك الناس من خلال مطاردات «شوارعية» على مظاهر تافهة لا تصفنا إلا بالتخلف. إن لم نفعل وإلا فعلى أهل الإسلام السلام.

بقلم: محمد المزيني - الحياة