كبح تكلفة الإيجارات

في الوقت الذي تشهد خلاله الأسعار السوقية لمختلف أنواع الأصول العقارية انخفاضات ملموسة، إضافة إلى ما تسجله مؤشرات السيولة المحلية وحجم الودائع المصرفية من انخفاضات هي الأولى من نوعها منذ أكثر من 20 عاما مضت، يضاف إليه التراجع الذي تشهده السلع الإنشائية (حديد، أسمنت، بلوك، خشب)، نكتشف أن تكلفة الإيجارات السكنية والتجارية على حد سواء تخالف كل تلك الاتجاهات الهابطة.

يعود السبب وراء كل ذلك إلى الغياب شبه التام للرقابة على عقود الإيجارات، التي تفتقر بدورها إلى أمرين مهمين؛ الأول: تقادم الأنظمة التي تحكم وتراقب وتضبط تلك العقود، وتأخر وزارة التجارة والصناعة كونها المسؤولة الأولى عن مراقبة هذه السوق في الإسراع بتحديث تلك الأنظمة ولوائحها. الأمر الثاني: أفضى هذا الفراغ التنظيمي والرقابي الكبير إلى تفشي أشكال التلاعب والرفع غير المبرر للإيجارات السكنية والتجارية بدرجة لافتة، إلى الدرجة التي لا ولن يجد ضحايا تلك المبالغات الكبيرة في رفع تكلفة الإيجارات المرجعية التي تكفل لهم أي حقوق أو تعويضات، في الوقت ذاته الذي ستجد فيه في جانب الدفاع عن مصالح ملاك تلك العقارات المؤجرة عديدا من المسوغات القانونية، والجهات التي تسخر الوقت والجهد والموارد لعل أكثرها فاعلية اللجان العقارية في الغرف التجارية والصناعية، وصلت قوتها النافذة إلى الدفاع والتبرير لكل أشكال التلاعب والتحكم غي الرفع غير المبرر للإيجارات السنوية.

يستند الحديث عن الانخفاضات المشار إليها في مطلع المقال، إلى بيانات وإحصاءات رسمية لا تقبل التأويل أو الشك، فوفقا لبيانات وزارة العدل حول نشاط وأداء السوق العقارية، أظهرت حتى نهاية شباط (فبراير) الماضي انخفاضا سنويا في أثمان الأراضي السكنية وصلت نسبته إلى 20.3 في المائة، وانخفاضا في الأسعار السوقية للوحدات السكنية للفترة نفسها وصلت نسبته إلى 14.0 في المائة. أما بالنسبة لمؤشرات السيولة المحلية؛ فحسب أحدث بيانات مؤسسة النقد العربي السعودي حتى نهاية شباط (فبراير) 2016، سجلت السيولة المحلية بمفهوميها الواسع والمتوسط (ن3، ن2) نموا سلبيا سنويا لأول مرة منذ عام 1997 بلغ حسب الترتيب نحو 0.9 في المائة ونحو 2.1 في المائة على التوالي، كما سجل إجمالي الودائع المصرفية أول نمو سلبي للفترة نفسها بلغت نسبته 1.0 في المائة، وسجلت الودائع المصرفية للشركات والأفراد للفترة ذاتها، أول معدل نمو سلبي بلغت نسبته 1.6 في المائة. أما على مستوى التغيرات السعرية في الأعمال الإنشائية، فوفقا للبيانات الحديثة الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء حتى نهاية شباط (فبراير) 2016، فقد أظهرت انخفاضا سنويا للأسعار السوقية للحديد وصلت نسبته إلى نحو 23.0 في المائة، وانخفاض أسعار الأسمنت للفترة نفسها بنسبة بلغت 2.3 في المائة، وانخفاض أسعار البلوك بنسبة وصلت إلى 1.8 في المائة، وانخفاض أسعار الخشب بنسبة وصلت إلى 3.1 في المائة، وانخفاض الأسعار السوقية لكل من الأسلاك والكيابل بنسبة 17.5 في المائة ونحو 15.1 في المائة على التوالي.

وتزداد المفارقات في سوق الإيجارات المحلية بصورة أكبر، إضافة إلى كل ما تقدم، حال العلم بارتفاع أعداد الوحدات السكنية الشاغرة من السكان إلى نحو 1.3 مليون وحدة سكنية بحلول العام الجاري، أي ما تصل نسبته إلى 18.6 في المائة (نحو خمس الوحدات السكنية)، وترتفع نسبة الوحدات السكنية الشاغرة في المدن الكبرى والمتوسطة إلى نسب تتجاوز 25.0 في المائة، ما يزيد من درجة التعقيدات المعيشية على سكان المدن الرئيسة، وفي الوقت ذاته كاشفا ومؤكدا ضعف جانبي التنظيم والرقابة على سوق الإيجارات السكنية والتجارية، تاركة إياها ضحية تتلاعب بها قوى الاحتكار والسيطرة العقارية، لا يتحمل ثمنها الباهظ سوى أفراد المجتمع بالدرجة الأولى، ومنشآت القطاع الخاص على اختلاف أنواعها.

لا يمكن القبول بأن تقف وزارة التجارة والصناعة، وهي الجهة المسؤولة الأولى عن ضبط الأسعار ومنع التلاعب أو التدليس بها في الأسواق المحلية، أؤكد أنه لا يمكن أن تقف أمام ما يجري في سوق الإيجارات موقف المتفرج! فكما أنها قامت بكل نجاح واقتدار ولا تزال بأداء كثير من أدوارها ومسؤولياتها التنظيمية والرقابية، وحماية المستهلكين من كثير من أشكال الغش والتدليس والتلاعب بالأسعار في السوق المحلية، بل قامت بتطبيق العقوبات والجزاءات والغرامات على المخالفين والمتورطين في تلك المخالفات، فلا بد أن تسارع الوزارة أيضا بتولي مهامها ومسؤولياتها تجاه حماية المستأجرين من الأفراد والأُسر وحتى منشآت القطاع الخاص، من أية مخالفات تتضمن التلاعب أو الرفع غير المبرر لتكلفة الإيجارات! وهذا ليس تدخلا أو إخلالا بحرية السوق كما قد يؤوله المستفيدين حصريا من هذه الفوضى في سوق الإيجارات، بقدر ما أنه ضبط ورقابة لا بد من تطبيق إجراءاتها وأدواتها على عموم تعاملات وتعاقدات سوق الإيجارات المحلية.

أصبح لزاما على وزارة التجارة والصناعة أن تبادر وتسارع بالعمل على تطوير نظام الإيجارات السكنية والتجارية على حد سواء، وأن يتم تشديد الرقابة على سوق التأجير التي تعاني غياب كثير من آليات الرقابة والتنظيم، بما يوصل كفاءتها إلى عكس المتغيرات الاقتصادية والمالية والنقدية والسعرية كافة على تكاليف الإيجارات السكنية والتجارية. كما يجب التأكيد على أن فوائد وإيجابيات قيام وزارة التجارة والصناعة بهذه الخطوة المهمة، لن تقف عند مجرد إعادة ضبط وتنظيم سوق الإيجارات المحلية، بل تتجاوزها إلى أبعد من كل ذلك؛ حيث إنها ستسهم بدرجة كبيرة في التخفيف الكبير من حدة وآثار الأزمة الإسكانية الراهنة، وتؤدي إلى منح كثير من المرونة لأفراد المجتمع ووزارة الإسكان على حد سواء، وتساعد على تجاوز الفترة المستقبلية المقبلة لكلا الطرفين دون أعباء معيشية ومالية مبالغ فيها، بل إنها تدون ضمن أول الإجراءات اللازمة للحد من الآثار السلبية الوخيمة للأزمة الإسكانية الراهنة. الأهم هنا؛ أن أفراد المجتمع والأُسر حال انخفضت عليهم أعباء تكلفة الإيجارات السكنية بنسب مقاربة لنسب الانخفاضات في الأسعار السوقية للأصول العقارية (20 في المائة إلى 30 في المائة)، والاستمرار في ترجمة تلك الانخفاضات بصورة سنوية دون ضرر أو ضرار، فلا شك على الإطلاق أن كل ذلك سينعكس إيجابا على تحسين مستويات المعيشة محليا، وسيؤدي إلى تعزيز قدرة وتحمل تلك الشرائح الاجتماعية معيشيا، بما فيها حالة انتظار ما ستفسر عنه جهود وزارة الإسكان تجاه حل الأزمة الإسكانية الراهنة. والله ولي التوفيق.

بقلم: عبدالحميد العمري - الاقتصادية