سعودة الوظائف العليا


في الوقت الذي أظهرت بيانات وزارة العمل ارتفاع معدلات التوطين خلال الفترة 2011 ــ 2015، وفي الوقت الذي ارتفع خلاله معدل التوطين من 10.4 في المائة بنهاية 2010، إلى أن تجاوز 15.5 في المائة بنهاية 2014، حدث كثير من التطورات المعاكسة داخل سوق العمل المحلية، التي لا يمكن أن تخفيها أو تخفف من آثارها السلبية أي مما يتم الحديث عنه كإنجازات على أرضية سوق العمل المحلية، ما يوجب على الأجهزة المعنية ذات العلاقة بالسوق، أن تبادر بقدر أكبر من الجهود والإجراءات للحد منها والقضاء عليها.

جرى الحديث مرارا وتكرارا حول كثير من تلك التطورات المعاكسة طوال الفترة الزمنية لتطبيق برامج التوطين "نطاقات"، وكيف تزامن مع تلك البرامج:

(1) زيادة معدلات الاستقدام (بلغ مجموع التأشيرات الصادرة لمنشآت القطاع الخاص خلال 2011 ــ 2014 أكثر من 5.6 مليون تأشيرة عمل).

(2) زيادة معدلات التوظيف الوهمي بالنسبة للمواطنين، قدرت بنحو 61.1 في المائة من إجمالي الوظائف التي تمت أتاحتها للمواطنين والمواطنات (نحو 504 آلاف وظيفة خلال الفترة 2011 ــ 2014".

(3) ارتفاع معدلات استقدام وتوظيف العمالة الوافدة المتدنية المهارات والتعليم، حتى وصلت نسبهم إلى إجمالي العمالة الوافدة في السوق إلى أعلى من 90 في المائة، وهو الجانب المرتبط بكل تأكيد بانخفاض كفاءة منشآت القطاع الخاص، وإسهامها النوعي في تعزيز تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، وكون نشاطاته تتركز في أغلبها على تنفيذ المناقصات الحكومية (عقود إنشاءات)، أو على نشاط الاستيراد بالجملة والبيع بالتجزئة، وكلا النشاطين لا يتطلبان مؤهلات علمية أكثر من الشهادة المتوسطة، في الوقت ذاته الذي يعد هذان النشاطان أكثر النشاطات العاملة في السوق الأكثر استقداما من الخارج، والأكثر توظيفا "وهميا" للمواطنين والمواطنات.

(4) تزامن أيضا مع كل ما تقدم ذكره من تطورات متسارعة داخل سوق العمل، أن سجلت معدلات التوطين على مستوى المديرين ومديري الأعمال انخفاضا من نسبة 89.9 في المائة بنهاية عام 2010، إلى أدنى من نسبة 72.1 في المائة بنهاية 2014، ويتوقع أن يأتي هذا المعدل بنهاية 2015 أدنى من النسبة المسجلة بنهاية 2014 نتيجة استمرار برامج التوطين على منوالها دون تغيير يذكر، وهذا التغير هو موضوع المقال هنا ــ كما سآتي عليه بعد قليل.

(5) وتزامن أيضا مع كل ما تقدم ارتفاع نسبة العاطلين من المواطنين والمواطنات من حملة الشهادة الجامعية فأعلى، إلى أن وصلت إلى نحو 49.8 في المائة من إجمالي العاطلين والعاطلات في منتصف عام 2015، وهو المؤشر المؤهل لمزيد من الارتفاع دون شك حال استمرار الأوضاع الراهنة في سوق العمل على ما هي عليه، التي تفتح فرصها الجديدة أو الشاغرة في المواقع العليا والقيادية بصورة أكبر للنوافذ المشرعة دون قيد أو شرط للاستقدام من الخارج، وفي الوقت ذاته تضمحل الفرص المتاحة أمام الباحثين والباحثات عن عمل من المواطنين فيما دون ذلك من وظائف، وهو المستوى الأكثر قدرة على تحمل تكلفة التوظيف الوهمي كما ستتضح صورته في الفقرة التالية.

(6) نتيجة لذلك؛ أظهرت بيانات المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية الأخيرة، أن أعداد العاملين والعاملات في منشآت القطاع الخاص، الذين يحصلون على أجور شهرية تبدأ من 3500 ريال شهريا فأدنى، يشكلون نحو 55.0 في المائة إجمالي العمالة الوطنية في القطاع الخاص! وهذا ليس إلا إحدى نتائج النظر أو التركيز على النتائج الكمية أكثر من النتائج النوعية، وهو أيضا إحدى نقاط الضعف الكثيرة التي تعانيها ولا تزال برامج التوطين الراهنة.

(7) وتزامن أيضا مع كل ما تقدم ارتفاع حجم تحويلات العمالة الوافدة إلى خارج الحدود، حتى وصلت وفقا لأحدث بيانات مؤسسة النقد (نوفمبر 2015) إلى نحو 157.0 مليار ريال، يقدر أن تحققها مع نهاية العام، ليصل بالتالي إجمالي حجم التحويلات للخارج خلال فترة تنفيذ برنامج نطاقات (2011 ــ 2015) إلى نحو 694 مليار ريال، يعد أكبر ممول لها أصحاب الأجور الشهرية المرتفعة المنتمون للمراتب القيادية والعليا في سوق العمل.

خلاصة الحديث التي سأكمل منها ما تبقى من المقال؛ أنه مقابل ارتفاع معدلات التوطين من 10.4 في المائة بنهاية 2010 إلى 15.5 في المائة بنهاية 2014، فقد انخفضت خلال الفترة نفسها معدلات توطين وظائف المديرين ومديري الأعمال من 89.9 في المائة إلى ما دون 72.1 في المائة. ووفقا لما تقدم ذكره قد تتراجع تلك النسبة وغيرها من المؤشرات الدالة على ارتفاع كفاءة توظيف المواطنين في القطاع الخاص، وقد تمر بمنعطفات أكثر صعوبة ووعورة في المستقبل القريب، قياسا على التطورات الاقتصادية والمالية المختلفة عن الماضي كما هو معلوم لدى الجميع.

هنا قد يتعين على وزارة العمل وهيئة توليد الوظائف، أن تضع برامج خاصة لتوطين تلك المستويات العليا والقيادية في منشآت القطاع الخاص، وأن تعمل في هذا الاتجاه بجهد أكبر واستثنائي وأكثر تركيزا، على التفتيش والمراقبة الأكثر تفصيلا على نوعية توظيف واستقدام العمالة الوافدة في هذه المنطقة الأكثر حساسية، التي وفقا لأحدث بيانات وزارة العمل يقدر أن الوظائف القيادية والعليا والمرموقة في منشآت القطاع الخاص تتجاوز سقف مليون وظيفة، وهي الوظائف الأكثر تحفيزا للقبول بها من لدن المواطنين والمواطنات، كما أنها الوظائف الأعلى تكلفة على كاهل الاقتصاد الوطني والقطاع الخاص تحديدا، وكونها الأكثر تزويدا للتسرب المالي للخارج.

إن المأمول من الجهتين أعلاه أن تبادرا على وجه السرعة بإقرار إجراءات أكثر حزما وأكثر جدية لتصحيح الاختلال القائم فيها في الوقت الراهن، والآخذ في التوسع دون قيد أو شرط كما أظهرته البيانات الرسمية المنشورة من كل من وزارة العمل والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، فهل نرى نورا قريبا من تلك الجهات المعنية؟ والله ولي التوفيق.

بقلم: عبدالحميد العمري - الاقتصادية