الأمم.. معادن

بالتأكيد لم يخلقنا الله سواسية.. تأمل أرزاق الناس، وصحتهم، ومواهبهم، وذرياتهم، تكتشف أن فيهم السعيد والمحظوظ، والمنحوس والمتعوس - وأيضا خائب الرجاء -.. البعض لا يفعل شيئا كي يصبح سعيدا ومحظوظا، والبعض الآخر يفعل كل شيء ومع هذا يظل تعيسا ومنحوسا - في حين لا تنجح سوى القلة في قلب المعادلة والصعود لقمة الهرم..

والأمر نفسه ينطبق على الأمم والشعوب والمجتمعات.. فبينهم السعيد، والمحظوظ، والبائس، والخائب؛ وكانوا بين ذلك طرائق قددا.. وصلوا لوضعهم الحالي عبر مسيرة تاريخية طويلة وعوامل متقاطعة كثيرة.. عوامل تاريخية وجغرافية وثقافية ودينية رفعت أو خفضت مجتمعات بأكملها دون حول منها ولا قوة.. فهناك مثلا عوامل جغرافية جعلت بعض الدول بلا جيران يعادونها (كنيوزيلندا وإيسلندا) وأخرى يحيط بها الأعداء من كل جانب (كالعراق وأستونيا)..

عوامل تاريخية جعلت بعض المجتمعات تعيش في الماضي (وتجتر منه حلولا فاشلة للمستقبل) ومجتمعات أخرى لا تملك تاريخا عميقا (كأميركا وكندا) أو رمته خلف ظهرها (كألمانيا واليابان) فانطلقت نحو المستقبل دون قيد أو شرط..

فروقات ثقافية إما تشجع على الكسل والاتكالية والاستسلام (كمعظم شعوبنا العربية) أو على العمل والانجاز وسرعة اللحاق بالآخرين (كتايوان وكوريا الجنوبية حيث يملك معظم المواطنين براءة اختراع)..

فروقات دينية جعلت بعض الدول في عصرنا الحالي تعيش خلافات مذهبية وصراعات طائفية وحوادث إرهابية، وهناك دول علمانية دستورية تعيش أيضا في عصرنا الحالي ولكنها تجاوزت مرحلة الحروب الطائفية منذ العصور الوسطى..

فروقات معقدة وعوامل متقاطعة تجعل كل أمة بمثابة حقيبة دبلوماسية يصعب تخمين أرقامها السرية أو حتى فهم طريقة تفكيرها.. فنحن مثلا يصعب علينا فهم الثقافة الغربية حين يتعلق الأمر بالجنس وحرية التعبير وانتقاد الأديان.. وفي المقابل لا يفهمون هم سبب موقفنا من المرأة، وتقديسنا للرموز الدينية، وحصرنا الفساد في دائرة الجنس (وليس في نهب الأموال العامة مثلا)..

ويمكن القول باختصار إن معظم الآراء تحصر عوامل التقدم والتخلف في أربعة عوامل رئيسية هي الموقع الجغرافي، والمزاج الشعبي، والتوجه الفكري، والموروث التاريخي والديني..

أما العوامل الخارجية (من غزو واستعمار ومؤامرات دولية) فتأتي كآخر وأضعف العوامل المؤثرة في انهيار أي أمة.. فالغزو الخارجي لا يأتي إلا بعد الانهيار الداخلي.. بعد أن تحتضر الأمم فكريا، وتتفكك اجتماعيا، وتتناحر طائفيا فتأتي حينها رصاصة الرحمة من الخارج (بشكل مغول أو تتار أو جيوش استعمار تكتسح أمامها بقايا الناس والحضارات)..

حين تسمع أحدهم يُعيد تخلف أمته إلى "المؤامرات الخارجية" فهذا بحد ذاته اعتراف ضمني بضعفها وانهيارها وقدرة الآخرين على تحديد مصيرها.. فالذباب ببساطة لا يتجمع إلا على الأجساد الساكنة..

* بقلم: فهد عامر الأحمدي