«سعفة» وثلة من الشرفاء..!
ذات يوم في الزمن الجميل كانت الأبدان تقشعر من ارتكاب خطيئة الفساد، الصدق والصراحة والوضوح عناوين تسود التعاملات بين بني البشر، إلا ما ندر من الظواهر الشاذة التي ترتكب الخسران الْمُبِين، فيُصيبها الانعزال والمقت من المجتمع، كانت الأخلاق منبراً للنزاهة والمرشد العظيم للتعاملات بين الناس، الضمائر حية يقظة في مواجهة الفساد وممارسيه، والتعدّي على المال العام جريمة بشعة وغير مقبولة لأنها تمس مصالح العباد، والجميع يتذكرون سبب هلاك فرعون كان الافساد في الأرض، وأن من أعظم أسباب الفوز بالآخرة نبذ ومحاربة الفساد بشتى صوره وأشكاله.
المُفسدون في الأرض تطوَّروا مع مراحل تطور نمط الحياة، وتغلغلوا في أدق تفاصيل ثورة التقنية والمعلومات، طرقهم تتجدد، وأساليبهم تتعدد، وأسلحتهم تتمدد، غيّروا معايير الهندسة القيمية، وحوّلوا الرشوة إلى معادلة باردة بين الراشي والمرتشي، تلاعبوا في معايير الغذاء والدواء بنظريات التجارب والهندسة الوراثية والهرمونات والمبيدات الحشرية، الصفقات لا تعبر إلا بعد مرورها بسراديب وسطاء يُحوِّلونها إلى كُرة نار يصعب الاقتراب منها لخطورة إشعاعاتها الفضائحية!
الفيلسوف جان جاك روسو الذي توفي عام ١٧٧٨ قال: أعطني ثلة من الشرفاء، وأنا كفيل بتحطيم «هزيمة» جيش من اللصوص المفسدين. الغرب تطور بعد ذاك التاريخ بتطوير أنظمة وآليات أجهزة الرقابة ومكافحة الفساد وتعزيز قيم النزاهة والشفافية، وحوكمة المؤسسات، وتفعيل دور مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني في صناعة القرارات والأدوار الرقابية المُستدامة حتى أصبحت جزءاً من نسيج المجتمع وأدوار أعماله اليومية، واستراحت الشعوب الأوروبية لمنظومة العمل المجتمعية التشاركية، وقفزت دول أوروبا الإسكندنافية، النروج، الدنمارك، السويد، فنلندا، وأيسلندا، إلى المراكز الأولى في النزاهة والشفافية، بحسب نتائج منظمة الشفافية الدولية لمؤشرات محركات الفساد.
قبل ٤ سنوات و٥ أشهر، صدر الأمر الملكي بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، أهدافها باختصار، حماية النزاهة ومكافحة الفساد، ورؤيتها، أن تكون من بين الهيئات المميّزة عالمياً في مجال حماية النزاهة ومكافحة الفساد، ورسالتها، المساعدة على توفير بيئة عمل تتسم بالنزاهة والشفافية والعدالة والمساواة.
احتلت الهيئة صدارة الحديث والنجومية في المجالس ووسائل الإعلام، خصوصاً وأنها ستواجه بأمر الملك الفساد ومن كائن من كان، وبعد أن استقرت أوضاعها التنظيمية والهيكلية، انتظر الناس أعمالها ونتائجها الحاسمة، وفوجئ المجتمع برسائلها الوعظية المتنوعة، وإلقاء المسؤولية من خلال رسائل وإعلانات توعوية تحمل عنوان أخي المواطن أخي المُقيم «معاً ضد الفساد»، وعاد المجتمع بالذاكرة إلى رسائل القرن الماضي، لا تسرع، ولا للمخدرات، التي لم يبدأ حسمها ومعالجتها، إلا بعد تطبيق الأنظمة والأجهزة الرقابية على الأرض!
على سبيل المثال لا الحصر، الأجهزة الحكومية تتحدث في تقاريرها عن تعثر (فشل) آلاف المشاريع، ولم تُكلّف الهيئة نفسها بالوقوف جدياً على مكمن الخلل والضعف المُتمثّل في نظام المنافسات والمشتريات الحكومية لرفع مستوى وكفاءة طرح المشاريع وتعزيز النزاهة والشفافية، ومازلت أتساءل عن عزوف الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد من الاستفادة من تجارب وأساليب شركات ناجحة في طرح وإدارة المشاريع كشركة أرامكو السعودية، والشركة السعودية للكهرباء، وشركة سابك، والهيئة الملكية للجبيل وينبع، والاستفادة منها في تطوير نظام طرح المشاريع الحكومية التي تُعاني في أغلبها من التعثر (الفشل)؟!
دعوة كريمة تلقيتها من الأمير تركي بن عبدالله بن عبدالرحمن رئيس مجلس الإدارة، لحضور الملتقى الأول لمؤسسة سعفة القدوة الحسنة، إحدى مؤسسات المجتمع المدني التي تهتم وتسعى إلى تعزيز قيم النزاهة والشفافية في جميع قطاعات الأعمال والخدمات في السعودية، حضرت مع الأخوة الزملاء أعضاء الجمعية السعودية لكتاب الرأي، ونخبة من الكتاب والإعلاميين، توسّم الجميع بفسحة الأمل، وتباشر الجميع خيراً وهم يسمعون عن مبادرات مؤسسة سعفة والتي من أبرزها إنجاز مراجعة نظام المنافسات والمشتريات الحكومية بالتعاون مع شركة عالمية متخصصة، لرفع مستوى الشفافية وتعزيز النزاهة في المواد القائمة في النظام ولوائحه التنفيذية، كما أنجزت المؤسسة اللائحة الاسترشادية لحوكمة المؤسسات والجمعيات الخيرية، إضافة إلى جائزة الشفافية التي تقدمها سنوياً للمؤسسات التي تعمل على ترسيخ وتأصيل قيم الشفافية والنزاهة والقيم العملية الرفيعة من خلال إحكام الأنظمة الداخلية وإجراءات الرقابة.
سعِدْنَا بالإجابات والإنجازات، وخرجنا من الأمسية نحملُ ثورة الأسئلة التي دخلنا بها، هل يوجد لدينا في السعودية مُؤسسات مجتمع مدني كتلك الموجودة في معظم دول العالم؟ ولماذا الوزارات تقاوم إنشاء مؤسسات المجتمع المدني وتحرمها من الفرص التمكينية لممارسة أعمالها، وهي التي ستخفف عنها أعباء المسؤولية، وستكون شريكاً مهما وموثوقاً في تحمل المهمات الرقابية، وتعزيز معايير البيئة العادلة؟
مؤسسة سعفة الخيرية، تسعى لمقاربة رسم حدود أدوار مؤسسات المجتمع المدني من خلال وضع معايير أخلاقية وتعزيز بيئة عمل الأنظمة والإجراءات، فهل سيُفتح المجال لاستحضار عملية الموازنة بين النفع والضرر، بين الخسائر والمكتسبات؟ أرجو أن يحالف التوفيق والنجاح الثّلة من الشرفاء في مؤسسة سعفة الخيرية.
* نقلاً عن صحيفة "الحياة"