من يحمينا من البرامج الرمضانية؟

أقبل رمضان، شهر الصيام والقيام، وشهر المسلسلات وبرامج الاستهبال، وشهر «اللقيمات والسمبوسة والفيمتو»، فرحين به مستبشرين، نعد عدتنا لاستقباله بالصيام والصلاة كما توحي بذلك وتغص به شبكات التواصل الاجتماعي، عبر قصاصات مكررة من تبريكات وأدعية رائعة، ولم نخط فيها حرفاً واحداً، نتبادلها مع أناس معروفين وآخرين مجهولين، نقتحمهم بلا سابق معرفة، هذا هو رمضان شكلاً، فماذا عنه مضموناً؟

حتماً لن يكون كأي شهر من الشهور، إذ ينقلب ليله إلى نهار، ونهاره إلى ليل، يقضيه بعضنا في سبات عميق حتى يحين موعد الإفطار، وإن صلى فعلى عجل؛ كي لا يلاحقه شبح الجوع والعطش؛ لذلك جهدنا ما وسعنا الوقت وأسعفتنا به أرصدتنا؛ لتعبئة مخازننا وثلاجاتنا بمؤونة لا تشي إلا بمعنى واحد؛ هو أننا مقبلون على مجاعة، وكأننا لا نستقبل شهر عبادة وصوم، بل شهر أكل وسهر ودعة، وقد انطلت علينا حيلة التجار وإعلاناتهم التي تلاحقنا عبر كل الوسائل والشبكات الإعلامية؛ لنشتري من كل شيء، من دون تمييز ما يكفينا لعام قادم. لعل أقرب وصف على الشهر الفضيل، الذي كان حري به أن يكون شهر تقشف واستشعار لمعنى الصيام، بأنه شهر المبالغات، المبالغات؛ ليخرج عن سياقه الحقيقي إلى مهرجان، نتمظهر فيه استهلاكياً ودينياً وإعلامياً، وكأن القيمة الحقيقية من هذا الشهر هو الاستمتاع في كل ما تصل إليه أيدينا وتشاهده أعيننا، حتى إننا بتنا نستمتع بالتفاخر بكل ما نقوم به بما في ذلك الصلاة والعبادة.

لقد أسهمت بعض وسائل الإعلام في تكريس هذه الصورة النمطية المستحدثة لشهر رمضان، فمنذ أن انطلقت شرارة القنوات الفضائية، وهي تحاصرنا بمنتجاتها التي لا يمكن أن يقال عن أكثرها إلا أنها رديئة ومستفزة لمشاعرنا؛ بحصاره الشهواني المستفز لكل القيم الأخلاقية. لقد أصبح رمضان مائدة حافلة كما الأطعمة بمنتجات؛ هذه القنوات بلا أدنى مسؤولية أو احترام، ينم عن ذرة انتماء لهذا الدين العظيم، وقد انسلخ كثير من العاملين في هذا الحقل عن أبسط مبادئه؛ لتحشد كل الطاقات المادية والمعنوية والتقنية والفنية في سباق محموم ومنافسة غير شريفة لاقتناص فرصة هذا الشهر الكريم بما لا يرقى إلى الذوق الفني والحس الإبداعي؛ لحقن اقواتنا التي اصبحت بفعل بلادتنا وكسلنا ميداناً لهم يسرحون فيه ويمرحون؛ مستغلين حالة استرخاء الناس الليلي بعد وجبات إفطار دسمة تثقل الأجساد عن الحركة، فمهما تذمر الناس من همجية هذه القنوات إلا أن الكثير منهم قد رضخوا لسطوتها، فلا بديل يناهز قدرتها الفائقة على الإغواء، فهم تحت نيرانها واستبدادها منزوعي الإرادة ومسلوبي الوقت، أسهم في ذلك انحسار العلاقات الاجتماعية، واندثار كثير من القيم التي من أهمها التواصل المباشر بعدما تفرقت بالناس السبل وشتتهم المدن المترامية الأطراف، حتى بات الأقرباء لا يرى بعضهم بعضاً إلا لماماً في مناسبات العزاء أو الأعراس. لن أعود إلى زمن الماضي المسمى «زمن الطيبين» وكيف كان رمضان آنذاك فقد كتب الكثير عنه بما يشبه العزاء والتباكي.

اليوم، لم نعد سوى مضغة سائغة لتجار القنوات، التي امتدت شراهتهم إلى أقدس الشهور وأجلها، وفشل القنوات البديلة في إيجاد صيغة منافسة لما يقدمونه للناس، لذلك رأينا كيف قدمت بعض القنوات العربية في الرمضانات السابقة بلا حياء أو وجل أو حتى ممانعة؛ أنواعاً من الدعارة والمخدرات والخيانات والاستهبال، وقد لا أحتاج إلى أن أذكركم بها، حتى برامج المسابقات والكوميديا انساقت إلى هذا الاتجاه وتعرت من مضامينها الحقيقة؛ معولة في جذب المشاهدين على التركيز على المشاهد المثيرة للغرائز، وقد يعذر الإنسان البسيط المتلقي بإرادة مسلوبة لكل هذا الإسفاف، بيد أننا لا يمكن أن نعذر القيمين على صناعة الإعلام؛ لكسر حدة شهوة المبالغات في سباق تجار السوق الإعلامية الرمضانية، ومن ورائها فريق إعلاني متمكن من صياغة الرسائل المحرضة على المتابعة، ثم نسأل عن أسباب التطرف الديني، أليست ممارسات الإعلام المتطرفة غير السوية ولا المسؤولة سبباً رئيساً في غرس نبتة التطرف؟! فالتطرف لن يقابل إلا بتطرف مماثل، وربما أشد؛ للتعبير عن الرفض لهذا المجون والتعدي على الأخلاق، بعدما عجز الموجهون لأخلاق المجتمع عن إيصال صوتهم إلى ربان الإعلام المنحط.

نحن اليوم أمام مواجهة حقيقية مع أنفسنا، وأخص بذلك مجتمعاتنا العربية التي لا تزال ترفل بحلة من الأمن، إما أن نكون واعين تماماً لما يقدم إلى جيل كامل يتخلق اليوم بصورة مختلفة، تحت وطأة الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي؛ لذلك علينا أن نبادر إلى التوقف قليلاً ومراجعة كل منتجات شركات الإنتاج الفني، ووضعها على محك الفن والإبداع الحقيقي، الذي لا يخرج عن أخلاق المجتمعات من حيث المضمون والشكل، وليكن الرصيد الحقيقي لبعض المنتجات الجيدة التي قدمت في رمضانات سابقة على قلتها مثالاً يحتذى، كالأعمال الدرامية التاريخية الرائدة في مسار الإعلام النظيف، فمن منا لا يذكر مسلسل عبدالرحمن الداخل وملوك الطوائف وعمر بن الخطاب وغيرها من المسلسلات، حتى المسلسلات الاجتماعية، فمن لا يذكر مسلسلي ليالي الحلمية ومسلسل بين القصرين وقصر الشوق، تلك التي أعادت إلى مفاهيمنا معنى الحياة الحقيقية المشمولة بالأخلاق ومعنى التضحية الحقيقي.

فما أحوجنا اليوم إلى الإمساك باللجام بإحكام، وتوجيه دفة الإعلام إلى ما يخدم مجتمعاتنا إبداعياً وروحياً وأخلاقياً وثقافياً، بعدما تخلخلت مفاصل الأمة ولحقت بأجزاء كثيرة منها العطب تحت وطأة الإرهاب الديني والسياسي، اللذين أضافا إلى خريطتنا العربية مواقع جديدة للمشردين الذين يجتاحهم الخوف، ويعبث بهم الجوع، وآخرين مهددين تحت نيران القتلة المنضوين تحت شعارات ومسميات عدة، ليس بينها ما يمثل القيمة الحقيقية للأخلاق.

رمضاننا هذا استثنائي، يجب أن نستشعر فيه جنودنا البواسل المرابطين على الثغور وهم يذودون عن وطننا ويذبون عنه بأرواحهم؛ كي يدفعوا عنه كيد الكائدين والمتربصين، بينما نحن نرفل بأَمَنَةٍ واستقرار.. فهل يحق لنا بعد كل هذا أن نريق أوقات هذا الشهر الفضيل على تفاهات القنوات المأجورة لتدمير قيمنا وأخلاقنا؟

نقلاً عن صحيفة "الحياة"