في انتظار سقوط الحضارة الغربية!

انشغلتْ، طوال العقود الأربعة الماضية، كثير من كتاباتنا وأدبياتنا وبالذات أدبيات الصحوة الإسلامية بـ (بشارة) قرب سقوط الحضارة الغربية، بأسباب ما تحتويه من إخفاقات وأزمات أخلاقية واجتماعية. وقد قوبل هذا الغرور الصحوي (المبطّن) بغرور أميركي مضاد أطلقه فوكوياما عبر إعلانه أن اكتمال مثالية النموذج الغربي (الأميركي ) يعني نهاية التاريخ، عبر وصوله الى هذه المحطة النموذجية.

بناءً على فرضية السقوط الوشيك، بدا لي المشهد الافتراضي لحالتنا العربية هكذا: إعلان التوقف عن بذل أسباب النهوض والنجاح ومزاحمة المتفوقين في هذا العالم، في انتظار سقوط الحضارة الغربية الذي سيدفع تلقائياً بصعود الحضارة العربية والإسلامية. وكأن إدارة العالم هي حكرٌ بالتداول بين العرب والغرب!

في العقد الأخير بدأت هذه الوثوقية في التحلحل، إذ تفطّن العرب أخيراً إلى وجود قائمة نهضة تنافسية، من غير العرب والغرب، تسعى بالمثل لقيادة العالم وفق العاملَين الرئيسين لكل حضارة: المبادئ والمصالح. وقد أشيرَ كثيراً إلى من سُمّيا التنين الصيني والفيل الهندي، لكن قلّما أشير إلى قوى، قد لا تكون أليفة لكنها متآلفة، مثل قوة دول الاتحاد الأوروبي أو دول البريكس (BRICS) التي هي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، إذ لفتت إلى شكل جديد من أشكال التحالف لا يأبه لتقارب الحدود الجغرافية في عالمٍ اكتسب طُرُز حدودٍ جديدة.

من المهم الإشارة تاريخياً إلى أن أول من بثّ وأشهر فكرة سقوط الغرب الوشيك هو ليس من رموز اليسار العربي ولا الصحوة الإسلامية، بل هو الفيلسوف الغربي / الألماني شبنغلر، الذي وضع كتابه الشهير «أفول الغرب» في العام 1918، وقام بترجمته أحمد الشيباني في قرابة 1700 صفحة مكتنزة بالأفكار والتحليلات العميقة والمتنوعة لمآلات الحضارة الغربية بعد الوحشية التي أظهرتها في الحرب العالمية الأولى، ولم يكن شبنغلر ليتخيل الوحشية العالمية الثانية التي ستنفجر بعد وفاته بسنين، ثم كيف سيلعق الغرب جراحه وينهض من جديد ليقود العالم ولكن من مكان آخر أكثر غرباً. وذلك هو ما تفوق به الفيلسوف الألماني الآخر ماكس ڤيبر على مواطنه شبنغلر، حين استبق الأحداث والنتائج فأصدر في العام 1920 كتابه الفذ «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية». فإذا كان شبنغلر قد وضع في كتابه مبررات سقوط الغرب فإن ڤيبر قد وضع مبررات نجاح الهيمنة الغربية واستمرارها من خلال الغرب الجديد (الولايات المتحدة الأميركية)، وذلك عبر تحليل العلاقة التسويغية بين الرأسمالية والبروتستانتية، ومبررات استطالة وجودها وليس سقوطها.

صحيح أن شبنغلر كان يتحدث في كتابه عن الغرب عموماً ولم يخصص حديثه عن أميركا، على عكس ما فعله ڤيبر في كتابه، لكن هذا لا ينفي العجب والتساؤل عن الموقفين المتناقضين من كاتبَين ألمانيين متجايلين وضعا كتابيهما في سنوات متقاربة جداً (1918/ 1920) ولكن بوجهتين متغايرتين. والآن ونحن على وشك إكمال مائة عام من الفكرتين نستطيع أن نلمس أيهما التي صدقت أكثر، على الأقل حتى بعد مضي قرن كامل من إطلاقهما.

غفلت أو تغافلت طروحات اليسار العربي المتشوقة لسقوط الرأسمالية عن أن هذه الأداة، على رغم بشاعتها حين تسود وتطغى، تملك روح التجديد والانسلاخ من الجلد البالي حال تعرّضها إلى أزمة خانقة، كما حدث لها في أكثر من أربع أزمات مالية خلال المائة عام الماضية. كما أن طروحات الصحوة الإسلامية المتربصة لسقوط الغرب، قد نسيت أو تناست أن الغرب «الجديد» لم يقم في نهضته على القطيعة والخصومة مع الدين كما فعل الغرب القديم، بل هو قادر على أن يزايد على موجات التديّن العالمي حين هبّت الرياح نحو ذلك.

وفي ظل التحولات المعرفية المتدفقة الآن وضرورة إعادة تسمية الأشياء وتعريفها وفق معطيات العالم الافتراضي المتاخم للعالم الواقعي الآن، يصبح الحديث عن (سقوط الغرب) بهكذا تبسيط هو ضرب من ضروب الخداع والتغرير. وقد أجاد الدكتور مسفر بن علي القحطاني، في إشارته بتمعن دقيق وعميق، إلى أربعة أسباب تقوّض فكرة سقوط الغرب الوشيك، أو هي على الأقل تقوّض الآمال العريضة في استعجال هذا السقوط، من المفيد الرجوع إليها بنصّها (http://alhayat.com/Articles/7097304/أفول-الغرب-----حكايات-سياسية-وحقائق-سُننيّة) .

وبعيداً من تفاصيل الموقف من سقوط الغرب.. بين المتربص والمتشكك، فإن الفروسية الحضارية تنطوي على نفي صفة النهضوي الأصيل عمّن يعتمد كليّاً في صعوده على سقوط الآخر!

نقلاً عن جريدة " الحياة"