الأخطاء التاريخية في معالجة الإرهاب الحديث

الإرهاب قضية تاريخية عميقة مرت بالكثير من التحولات والتطورات ولكن هناك قواعد مشتركة بين هذه المراحل التاريخية ظلت حاضرة في كل زمن، وكان الإرهاب يقدم نفسه في كل مرحلة وفقا لتحولات وتطورات الأوضاع السياسية والاجتماعية والتراثية السائدة في مرحلة تاريخية محددة.

في كل مرحلة من تاريخ الارهاب كانت هناك أخطاء جسيمة في معالجة الإرهاب إما أخطاء سياسية او مجتمعية او ثقافية أو تراثية، وكانت هذه الأخطاء محركا رئيسا في استمرار الإرهاب واشعال جذوته كلما شارف على الانتهاء.

الإرهاب الديني بشكل خاص هو ذلك النوع من الإرهاب الذي يوظف مكونات الأديان لخدمة أهدافه ويؤصلها عبر قراءة فكرية للتراث تتناسب مع تلك الاهداف ومع مرحلته تاريخيا، من خلال اعتماد مباشر في نشاطه على مقومات رئيسة، ولعل من أبرزها وجود قاعدة جماهيرية مؤيدة، ووجود منظرين قادرين على عسف المكونات التراثية وصناعة الأدلة الاثباتية من مكونات التراث الديني، واخيرا قدرة الإرهاب على صناعة قيادات لها صفة جماهيرية وصفة فكرية وبعد اجتماعي.

لقد كانت اللحظات الأولى في تاريخ الاسلام وتحديدا بعد العقد الرابع الهجري مسرحا لبداية ظهور الإرهاب والانشقاقات التاريخية التي عصفت بالفكرة الإسلامية كثيرا، وأعتقد جازما ان تلك المرحلة من الصراعات هي من فتح الباب لصراع التأويلات في الفكر الإسلامي، عندما اختلطت السياسة بالحياة بالمجتمع بالثقافة ففقد المسلم وجهته الحقيقية ودوره الديني فتكاثرت عليه الادوار والمهام وأصبح يفتي في السياسة والتربية والتاريخ والمجتمع والعلم الشرعي.

لقد تبعثرت الفكرة الإسلامية التي صانتها العقود الأولى من تاريخ الإسلام وذلك عندما بدأت الصراعات والحروب، بينما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سبيل المثال يدير المجتمع المسلم بكل مهارة سياسية حيث كانت تفاصيل الحياة واضحة معروفة حدودها فكان كل مسلم يعرف ماله وما عليه بحسب إمكاناته وفهمه للمجتمع فلم يكن أحد من المسلمين يتدخل بغير شؤونه وما خصص له.

لقد نشأ الإرهاب تاريخيا عندما ساهمت القراءات والتأويلات الفكرية الخاطئة وفشلت في تحديد مهمة الفرد المسلم في المجتمع، فأصبح كل مسلم يريد أن يكون عمر بن الخطاب ليس في تقواه وورعه رضي الله عنه بل يريد أن يكون سياسيا مثله متناسيا قدرات هذا الخليفة ومهاراته التي ايدها القرآن في أكثر من موضع، الإرهاب في الإسلام والذي تواتر تاريخيا يعبر عن انعكاس شديد وفشل في بناء منظومة اجتماعية قادرة على تحديد المهام والادوار لكل فرد ومجموعة في المجتمع، لقد خرج الإرهاب كنتيجة طبيعية لضعف الفهم الفكري في دور الدين في الحياة ومسؤوليته الفردية والمجتمعية.

في العام 1948 م ذهب سيد قطب مبتعثا الى أمريكا للدراسة وهناك كتب رسالة الى صديق يوثق فيها شرارة الانطلاق لفكرة الإرهاب الحديث وكلمة السر التي غابت او تم تناسيها عن الساسة والمفكرين وعلماء الاجتماع وحتى علماء الدين تهربوا منها ولم يناقشوها وفي اعتقادي ان كلمة السر هذه هي السبب المؤسس للإرهاب الحديث.

فكرة "الغربة" وكما كتبتها شخصيا في كتيب أصدرته المجلة العربية في عددها الثالث والسبعين بعد الثلاثمئة، من عام ألف واربعمئة وتسعة وعشرين" إن كلمة اغتراب بمفهوم بسيط تدل على تباعد يحدث بين شيئين او اكثر.. الخ" حيث تباعد سيد قطب بشكل كبير عن الثقافة التي ابتعث اليها فنبذها وتكونت لديه فكرة الانتقام منها وأنها ثقافة تغيب عنها الروح كما يقول.

فكتب سيد قطب الى صديق له عن أمريكا والحضارة الغربية" هنا الغربة، الغربة الحقيقية، غربة النفس والفكر، غربة الروح والجسد" وكتب الى صديق آخر يقول " ما احوجني هنا لمن ابادله حديثا بحديث، في غير موضوع الدولارات ونجوم السينما وماركات السيارات... حديثا في شؤون الانسان والفكر والروح"(كتاب البروج المشيدة).

الفجوة بين الغرب المتطور والشرق المتخلف ساهمت في مشاعر الغربة التي شعر بها سيد قطب عندما ذهب الى أمريكا واستطاع بعدها أن يؤسس من خلال جماعة الاخوان وغيرها لحرب متطرفة اشعلت الإرهاب منذ منتصف القرن العشرين وحتى هذه اللحظة وكان شعارها ولا زال "أن الحداثة الغربية لا تشمل حديثا في شؤون الانسان والفكر والروح" ولذلك يجب على المسلمين من خلال فكر سيد قطب أن يملأوا هذا الفراغ الروحي، فهل نسي سيد قطب أن تلك الثقافة الغربية مليئة بالكنائس والمساجد والمعابد عندما كان مبتعثا هناك..؟

فلسفة الإرهاب الحديث قامت على "فكرة الغربة" كما أسس لها سيد قطب وهي تعني الفرق الحداثي بين مجتمعات المسلمين والمجتمعات الغربية، وعندما عاد سيد قطب من بعثته تشكلت كل ادواته ومساهماته الفكرية على البحث في ثنايا التراث من اجل تعزيز فكرته، فكان الشعار الأول الذي رفعه جهيمان على سبيل المثال عند أول هجوم إرهابي في المجتمع غربة المسلمين وضرورة ظهور المهدي ليخلصهم من هذه الفروقات الحضارية. فالخطاب المتطرف منذ حادثة جهيمان ونشوء الصحوة وظهور القاعدة كلها يتكئ على قاعدة تاريخية اسمها "غربة الدين" ولم تكرس أحاديث الغربة وقصصها تاريخيا كما كرست خلال العقود الأربعة الماضية (غربة الإسلام، والقابض على الجمرة.. الخ).

حل ازمة الغربة كما تطرحه الفئات المتطرفة لا يحدث الا من خلال مواجهة مع هذه الثقافة الغربية بعدة وسائل ولقد كان الجهاد هو المسلك الوحيد لجمع أكبر عدد من المتأثرين بفكرة الغربة وفي ذلك يقول عبدالله عزام أحد منظري الإرهاب الحديث " سافرت لكي أطلع الناس على دعوة الجهاد، لقد كنا نحاول أن نروي ظمأ الناس للشهادة".(كتاب البروج المشيدة)

هنا يجب العودة الى السؤال الأساسي: ما هي الأخطاء التاريخية في معالجة الإرهاب الحديث الذي تعرض له مجتمعنا خلال العقود الأربعة الماضية..؟

يقول العلماء لا يمكن أن نكتب التاريخ دون وجهة نظر ولأن تاريخ الإرهاب الحديث ليس بعيدا والكثير منا تمكن من العيش فيه فلا بد من رصد بعض الأخطاء.

من الأخطاء التاريخية سماح المجتمع لتلك الفئات المتطرفة أن ترسم مستقبلها بذاتها وبنفس ادواتها مع تغيير في المفاهيم، لذلك اخترعت فكرة "الصحوة" كتعبير عن استيائها من بعض الجماعات المتطرفة التي تسرعت في التفسير الإرهابي لفكرة الغربة.

من الأخطاء التاريخية تلك الازدواجية في تعريف مرتكب الإرهاب وكيف تأثر بالإرهاب ومن الذي أثر فيه، وهذا التراجع في تحديد تعريف صارم للإرهابي خلق فئة من المؤيدين المستترين الذين استخدموا فكرة التضليل للشباب كغطاء وصد لتسميتهم بالإرهابيين حتى يتم الابتعاد عن نقطة الفصل بين الإرهابي وبين المضلل.

من الأخطاء التاريخية الصمت عن فكرة الغربة المجتمعية للشعوب والمجتمعات الإسلامية والرضا بأنها حقيقة وعدم مواجهتها بالتحديث في الخطاب الديني، وهو ما يطالب به اليوم العالم كله وليس المسلمون فقط، وكان من الممكن اتخاذ هذا الإجراء بدلا من منح تلك الجماعات المتطرفة الفرصة لتحقيق أهدافها بطرق أكثر فتكا في المجتمع من خلال زراعة فكرة أدلجة المجتمع التي سوف تكلفنا الكثير من الجهد والزمن حتى يتم تجاوزها. 

نقلاً عن جريدة " الرياض"