من يردع تلاعب العقاريين وتدليسهم؟

 معلوم أن كل نظام جديد تصدره الدولة، يستهدف بوجوده وما يتبعه من لوائح تنفيذية، أؤكد أن الدولة تستهدف بها كمنظومة مجتمعة من التشريعات والأنظمة الإشراف والتحكم والإدارة والتنظيم والرقابة على النشاط أو القطاع المستهدف بتلك الأنظمة واللوائح التنفيذية. وهو بالتحديد ما استهدفته الدولة بإقرارها أنظمة التمويل ولوائحه، التي أعلنت مؤسسة النقد العربي السعودي البدء بتطبيقها الإلزامي مطلع الشهر الجاري، وهذه الأنظمة واللوائح ستنظم العلاقة بين كل من المواطنين والمصارف وشركات التمويل المرخصة، في ظل بيئة تنافسية عالية الشفافية، وبما يعزز قوة واستقرار قطاع التمويل، ويوفر له أسباب الحماية الكافية من أية مخاطر محتملة.

استبشر الجميع خيرا بصدور تلك الأنظمة والبدء بتطبيقها، واتفق الأغلبية على ما ذهبت إليه من مؤسسة النقد من ضرورة التشديد على ضوابط التمويل، والعمل بكفاءة عالية على مستوى الرقابة والالتزام التام بمواد وفقرات الأنظمة واللوائح التنفيذية، وإيقاع العقوبات المنصوص عليها في نصوصها على كل من يخالف أيا من موادها وأحكامها.

تصاعدت أصوات تعارض أحد الشروط التي نصت عليها أنظمة التمويل، وتحديدا اشتراط الدفعة المقدمة حال طلب التمويل، التي نصت الأنظمة على تحمل طالب التمويل دفع 30 في المائة من القيمة الإجمالية للتمويل، وعلى اختلاف مصادر تلك الأصوات المعارضة، إلا أن أقواها وأكثرها لفتا للانتباه، كان من قبل القطاع العقاري نفسه، الذي وجد نفسه في ورطة لا يحسد عليها أبدا، فأمام مستويات الأسعار السوقية المبالغ فيها جدا في الوقت الراهن، وبعد أن ثبت لديه بما لا يدع مجالا للشك أن قدرة المواطنين على مستوى دخلهم السنوي الراهن، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تمكنهم من شراء تلك الأصول العقارية الباهظة الثمن، فما كان منهم إلا أن رموا بكل أحلامهم على عاتق قطاع التمويل ليوفر الائتمان اللازم لقاء شراء تلك الأصول المتضخمة سعريا، غير أنها أحلام باءت بالفشل الذريع مع أول معرفة لهم بتلك الشروط والقيود الصارمة! ولهذا ارتفعت أصوات اعتراضهم جملة وتفصيلا على تلك الشروط، لا لأجل تحقيق مصلحة (غير مفكر فيها من قبلهم من الأصل) تخص الباحثين عن شراء مساكن لهم، بل لأن تلك الشروط ستقف سدا منيعا في وجه أطماع وجشع تلك الأطراف، وبينها وبين اللاهثين وراء أحلام تملك منزل العمر! وهو ما سيؤدي في مرحلة لاحقة إلى تصحيح الأسعار المتضخمة جدا، وهو ما لا تريده تلك الأطراف، بل إنها تحاربه بكل ما أوتيت من قوة ونفوذ.

بدا فعليا أن مؤسسة النقد العربي السعودي عازمة أمرها بكل جدية على تطبيق أنظمتها، وألا نية لديها على الإطلاق للتراجع عن حرف واحد من توجهها، لهذا بدأتْ تلك الأطراف بالبحث عن أية ثغرات لاختراق تلك الأنظمة! وهو ما بدأ بالحدوث الآن.

إذ وضعت تلك الأطراف كل مغرياتها (الدسمة) أمام المشتري، وتكفلت هي بتمويل قيمة الدفعة الأولى (30 في المائة)، مقابل تحميلها كدين على المشتري، على أن يقوم بسدادها لاحقا عبر اضطراره للاقتراض بقرض استهلاكي إضافي بجانب قرض التمويل العقاري، أي أن المشتري سيكون ملزما بتحمل سداد أقساط تستقطع من دخله الشهري أكثر من 66.0 في المائة! هذا النوع من التحايل المفترض أن يكون المشتري أول المسؤولين عن حماية نفسه من التورط الكارثي فيه، إلا أن انهزامه نفسيا وماديا وحاجته القصوى إلى تملك منزل العمر له ولأسرته، وضعته أمام خيارات بالغة التعقيد، خيارات لا أقل من القول عنها إلا أنها جميعها مُرّة جدا بطعم العلقم! في الوقت الذي يقابله أناس تمكن منهم الطمع والجشع واحتراف استغلال الحاجات الأساسية والماسة للناس أيما تمكن، فلا يوجد أي رادع لهم قد يردهم عن تحقيق مآربهم وأهدافهم الجشعة مهما كلف الثمن، فالغاية النهائية أن يقبضوا ثمن ما تم بيعه، سواء كان هذا الثمن مستحقا أو مبالغا فيه، كل هذا لا أهمية له على الإطلاق في ميزان شهوة جمع الأموال بأي طريقة كانت، ودون النظر إلى أية عواقب وخيمة قد تقع على المواطنين أو الاقتصاد الوطني أو القطاع المالي، كل هذا لا قيمة ولا أهمية له.

هنا، لا أظنه من قوام الأمر ولا صلاح الحال أن يرتفع صوت البعض، أن النظام لا يحمي المغفلين! على أساس أن المشتري (المواطن، أو المواطنة) هو من قبل أن يكون كبش فداء لتلك الأطماع والجشع، وهنا لا يجوز أن أبدا القول بأنه (مغفل) بقدر ما أنه (ضحية) لـ: (1) محدودية دخله. (2) لم يجد من يحميه من استغلال وتلاعب تجار التراب بمقدرات السوق العقارية وسوق الإسكان. (3) خوفه الشديد على مستقبل أسرته، وحرصه على تأمين المسكن لهم في حياته أو بعد مماته. (4) انعدام الخيارات العادلة أمامه في هذا الخصوص. فماذا بيده فعله، وهو يجد نفسه وأسرته ومستقبل حلمهم الوحيد محتجزا بين مقصلتي تجار التراب؟!

هنا يأتي دور الأجهزة الحكومية المعنية بحماية المواطنين من الاستغلال، فكما أن تلك الأجهزة استطاعت كشف كل ريال أودع أو تم سحبه من حسابات المستفيدين من (حافز)، فلا أشك لحظة واحدة في أن لديها القدرة التامة على القيام بالأمر ذاته مع المواطنين الذي قد يقعون ضحايا لتلك الممارسات والتلاعب والتدليس! إن التأخر عن أداء هذا الدور والمسؤولية لحماية المواطنين من سوء الاستغلال وتوريطهم فيما لن تحمد عقباه لاحقا، وما سيمتد ضرره الفادح طال الزمان أم قصر إلى أروقة القطاع المالي برمته، فعلى أقل تقدير لتفكر تلك الأجهزة المعنية بحماية القطاع المالي إن كان أمر المواطن لا يعنيها من قريب أو بعيد، وهو ما لا أظنه بحقيقة أو صحيحا، وهو أيضا ما تنأى بنفسها عنه تلك الأجهزة المعنية (وزارة المالية، مؤسسة النقد العربي السعودي)، وإن حماية المواطن وضمان حقوقه ورفاهيته تتقدم أولويات وأهداف تلك الأجهزة.إنني وغيري من أفراد المجتمع لنأمل بكل ثقة في تلك الأجهزة المعنية، في أن تستدرك مخاطر مثل تلك الممارسات الخطيرة، التي تقوم على سوء استغلال حاجات أفراد المجتمع، وتتعامل معهم كذئاب تلاحق فرائسها دون أدنى رادع من أحد، ودون أدنى خوف من رقيب أو نظام. إنها أمانة المسؤولية والمهمة العظمى بالضرورة القصوى والعاجلة لحماية مقدرات البلاد والعباد من أيادي العبث وسوء الاستغلال! فهل تتحرك كل من وزارة المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي للوفاء بها؟ أم ستتجاهلها لتقع الفأس في الرأس، وهيهات حينها أن نجد جميعا أي مفر من عواقبها الوخيمة! وهذا ما لا يتمناه أحد منا. والله ولي التوفيق.

نقلاً عن صحيفة " الاقتصادية"