زمن السبي والفتنة

لم يكن زمن السبي والفتنة -تلك التي يتمظهر بها جهاديو زماننا- لتحدث في زمن علماء الأمة الحقيقيين، المتعففين، الزاهدين، العارفين بالله، الذين خبروا بعلمهم وسخّروا أنفسهم لله، فكانوا مصابيح في ليالي الدجى، مدركين لرسالتهم الربانية، غير عابئين بعرض الدنيا، وغواياتها، لذلك خرجوا من الدنيا متخففين، لا يملكون من حطامها سوى أثوابهم ونعالهم، ليس من قلة حيلة، بل من زهد وتعفف، وقد شُهد لهم وأُثر عنهم أنهم قد رفضوا كل العروض المغرية التي كانت تقدم لهم من الحكام والتجار، ملتزمين أربطتهم العلمية، يؤسسون لجيل من العلماء، حتى أصبحوا علامات يأتم الهداة بها، وجامعات يعتد بشهاداتهم وإجازاتهم، ويشد الرحال إليها.

أما في هذا الزمن فقد ظهر بعض مشايخ الطفرة الصحوية، الذين أصخبوا علينا حياتنا، وصدّروا الفتاوى في كل شيء، وضيّقوا على الناس حياتهم، مستغلين كل الوسائل والأدوات، حتى أصبح الناس متوجسين شكاكين في كل شيء، وبعدما تم لهم التحكم في مفاصل المجتمع، الذي كان قبلاً بسيطاً ينزع للسلام، ألبسوا الشباب «إكسسوارات» تصفهم تماماً، أثواب قصيرة وذقون طويلة، ووجوه متجهمة، وحقنوا عقولهم بآراء حادة غير متصالحة، ولا مهادنة للآخرين.

فاقتربوا من لغة الإقصاء والممانعة حتى استقرت بهم الحال إلى التكفير، بمسميات كثيرة، وبعد هذا بالله كيف ستكون عليه الحال؟ ليس أقل من إرهاب وصدام دامٍ مع كل المخالفين. اليوم ثمة بوابات للجهاد تفرغ جزءاً من هذه العبوات الدينية الناسفة، تلك التي تدافع إليها ثلة منهم، تحت دعايات فجة، حتى إن أحدهم لم يتورع بالنداء عن تسويق بضاعة مزجاة، ويعلن بثقة عالية عن كرامات المجاهدين والملائكة، الذين يتنزلون عليهم من السماء، ليقاتلوا في صفوفهم، ولن تسأل عن دعاة الصحوة ومشايخها، فستراهم في عباءاتهم المقصية، ومركباتهم الفارهة، مقتحمين ملذات الدنيا وزخرفها من أوسع الأبواب، حتى أصبح بعضهم فاحش الثراء، ليس من إرث يذكر ولا تجارة تعرف، «اللهم لا حسد»، وحسبهم أن الله واسع العطاء وهو الرزاق الكريم، ولا يستحيون أن يعلنوا ذلك للملأ، وفي الوقت الذي يطير فيه شبابهم من بوابات سرية إلى سورية والعراق، هم يطيرون أيضاً إلى بلاد الضوء والجمال، متناسين الفتاوى القديمة التي كانت تحرِّم على الناس السفر إلى بلاد الكفار، ومع تبدل الحال تغير المقال، وفقاً لطبيعة المقام. وبمثل ما نرى شباب «الجهاد»، يتباهون بانتصارهم وغنائمهم ويتقاسمون السبايا، نرى مشايخهم اليوم وعبر شاشات التلفزيون في مداخلاتهم الحية، يتقلبون في نعيم بين عواصمها ذات المشاهد الأخّاذة، تلك التي تسرق الألباب، كلندن وباريس وروما، يسبحون بحمد الله على أرصفة الشانزليزيه وفينيتو والبيكاديلي والهايدبارك وإدجاوررود والهارودز، وتحت برج إيفل، متنعمين بصيفها وخريفها وشتائها.

صابرون ومحتسبون الأجر والمثوبة من الله. فلم يفتأوا يتماهون بجمال خلق الله علی أرضه، حتی وطأت أقدامهم أرض الولايات المتحدة الأميركية، هناك ضجت صدورهم بكل الحياة الساكنة، ودب في عروقهم صخب الحياة المنفتحة علی كل شيء بلا مواربة، هالهم قدرة الإنسان علی عمارة الأرض، فعبّروا عما رأوه بإعجاب منقطع النظير، ومع ذلك لم يتوارد في أذهانهم أو يختلط في وعيهم أي دالة على مراجعة فلسفية، وحتى تأويليه، لمعنى صلاح عمارة الكون، ذات القوانين الصارمة، التي أنهضت أوروبا، ومن ثم أميركا، وأقامت أخلاقها وفق مناهجها العلمانية الوضعية، عقب عصور مظلمة ومتوحشة، لم يقتنصوا الحكمة من رؤية السابقين لهم، كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، اللذين اختمرا بالفلسفة الأوروبية، وبدت واضحة جلية في مناهجهما الإصلاحية والتنويرية فيما بعد، مكتفين بالمشاهدة والتماس الظاهري حد «الاستملاس»، ليندفعوا تبكيتاً وتوصيفاً لأخلاقنا العربية، ولم يجرؤوا على القول صراحة أن التنظيمات العلمية العلمانية أوصلتهم إلى هذا المنتج الأخلاقي الإنساني، الذي سمح لهم باقتطاع مساحات من تلك الديار ببناء المساجد، وأعطاهم الحرية الكاملة للدعوة إلى الله، والحركة بحرية من دون ممانعة، بينما ظلوا ردحاً من الزمن في احتراب مزمن مع كل التنويريين والمبدعين، حتى تمت لهم الغلبة وتسيدوا على كل المنابر، فلم يعد للصدق مكان بين الناس، فهم يمارسون ما يعتقده نيابة عنهم الغير، ويطالبهم بها في العلن.

أما في الخفاء فثمة حياة مختلفة، هي للخاصة فقط، وكأنهم كانوا يدربوننا على النفاق والتمظهر الإسلامي المزور، ففضحتنا أخلاقنا النزقة ورعونة تعاملنا مع بعضنا، فلا الدين الجديد الذي جاؤونا به هذّب أخلاقنا وجعلنا محترمين أمام الناس، ولا أخلاقنا السرية التي نمارسها في الخفاء جعلتنا أمام أنفسنا محترمين، فماذا كانت نتيجة الوعاظ الجدد، الذين انفتحوا على الخارج بعد نحو 30 سنة؟

للإجابة على الشيخ الواعظ، المأخوذ غراماً وهياماً بأخلاق الأوروبيين بعدما «استملس» وبره، أقول: إنما آلت إليه أخلاق مجتمعنا واقعياً من التردي بسبب الدفع الديني المسيس إلى مرحلة التكفير ومهاجمة الناس في دور عباداتهم، ورشقهم بالرصاص الحي، لو فكر هؤلاء الشباب المسحوبون بعماهم إلى دعاة السبي والفتنة، لأدركوا أنهم مدفوعون إلى الهلاك ونار الله المحرقة بسبب ظلمهم وعدوانهم.

نقلاً عن صحيفة " الحياة"