الفُلك المُتجمد

تتسارع في عصرنا الحاضر معدلات انقراض المخلوقات الحية بدرجة غير مسبوقة في التاريخ.. ويعتقد علماء الأحافير أننا نعيش في موجة انقراض سادسة كبيرة (حيث مرت الأرض بخمس موجات سابقة تسببت إحداهن في اختفاء الديناصورات) تتناقص فيها الأنواع الحية مقابل تزايد أعداد البشر.

وكجزء من الحل ظهر مشروع سفينة نوح أو الفلك المتُجمد Frozen Ark لحفظ الأصول الوراثية للحيوانات والنباتات التي يُخشى عليها من الانقراض.. والمشروع نسخة معاصرة من سفينة نوح التي حملت الأنواع الرئيسية من الكائنات الحية لبدء حياة جديدة بعد طوفان الانقراض الحالي.. وهو بمثابة حديقة حيوان متجمدة تعاونت في إنشائه جمعية الحفاظ على الحيوان في لندن مع متحف التاريخ الطبيعي وجامعة نوتينجهام. ويعمل المشروع على حفظ الحمض النووي والخلايا الحية للأنواع المهددة بالانقراض لإعادة تكاثرها في المستقبل. ورغم عدم نضوج تقنيات الاستنساخ حتى يومنا هذا يأمل المشروع أن تصل مستقبلا إلى حد القدرة على استعادة الأنواع التي انقرضت بالفعل.

وبين سفينة نوح القديمة وسفينة نوح الجديدة ظهرت في عصرنا الحالي مشاريع كثيرة لحفظ بذور الحياة لفترة (ما بعد الكارثة). فاليوم تملك حدائق الحيوان الكبرى بنوكا مجمدة لحفظ بويضات وسوائل المخلوقات النادرة والمهددة بالاختفاء. وفي أمريكا وفرنسا يبلغ الأمل أقصاه حيث توجد شركات متخصصة في تجميد (أموات) يأملون في العودة للحياة مستقبلا.. أما أكثر المشاريع حكمة وعقلانية فخرج من السويد التي دعت شبابها (في سنوات الحرب الباردة) الى تجميد بويضاتهم وحيواناتهم المنوية لتخصيبها عند الحاجة إليها.

والحقيقة هي أن فكرة الحفاظ على (الأصول الحياتية) مجرد فرع من فكرة أكبر تتضمن الحفاظ على كافة الأصول المهمة لما بعد الكارثة؛ ففي الولايات المتحدة يحتفظ البنتاجون بأهم مستنداته فى تجويف عميق تحت جبال روكى في حين تُحفظ النماذج المدنية والتقنية تحت صحراء نيفادا.. وأثناء الحرب الباردة شعرت ألمانيا انها ستكون ضحية الحرب بين روسيا وأمريكا فخزنت كثيرا من وثائقها المهمة فى نفق عميق فى مدينة هامبورج. وفي نهاية القرن العشرين وضمن الاحتفال بنهاية الألفية الثانية دفنت مدينة ستراسبورج في فرنسا كبسولة زمنية تضم أصولاً وراثية لأبناء المدينة (والكبسولة الزمنية مصطلح يطلق على كل حاوية تضم مقتنيات من الزمن الحاضر تدفن في الأرض ليفتحها أبناء المستقبل)!!

ورغم كل هذه الجهود لم أجد حتى اليوم من يتفوق على الفراعنة والإيسلنديين في أسبقية حفظ أصولهم الوراثية (وإن كان هذا بهدف الإنتقال بسلام الى العالم الآخر). فالمقابر التي شيدها الفراعنة قبل 4000 عام ضمت مومياوات خزنت بحرص لتجاوز جميع الكوارث التي ستحصل على سطح الأرض وماتزال الأهرامات في نظري أعظم ثلاث كبسولات زمنية لم تبح بأسرارها بعد.. أما الإيسلنديون فقد دأبوا خلال الألفي عام الماضية على الاحتفاظ بأجزاء من رفات أسلافهم ويملكون اليوم أرشيفا وطنيا تجاوزت محتوياته 277 ألف عينة بشرية (كان يحتفظ بها المواطنون في بيوتهم حتى وقت قريب)!

بقيت أسئلة تهمنا نحن: هل فكرنا بحفظ الأصول الوراثية للأنواع المهددة بالانقرارض في جزيرتنا العربية؟ وماذا نفعل مع الدول التي هجنت أو استنسخت أصولنا العربية وأصبحت جزءا من ملكيتها الفكرية (مثل بريطانيا وإسرائيل وتركيا التي تملك حقوق إنتاج أنواع مهجنة من الصقور، والمها العربي، وشتلات التمور المحسنة)؟ ... بدون شك نحتاج لسفينة نوح صحراوية. 

نقلاً عن صحيفة " الرياض"