ما فائدة الوظيفة التي لا تحمي من الفقر؟

من يستطيع الإجابة عن هذا السؤال بين الأجهزة الحكومية التالية: وزارة المالية، وزارة الخدمة المدنية، وزارة العمل، وزارة الاقتصاد والتخطيط؟ إذا كان أغلب رواتب العاملين من المواطنين والمتقاعدين "دون" خط الكفاية "الفقر" المقدّر وفقا لدراسة مؤسسة الملك خالد الخيرية الأخيرة بلغ 8926 ريالا شهريا بنهاية 2012، والمتوقع بإسقاط معدل التضخم خلال 2013 أن يرتفع إلى 9218 ريالا شهريا، أمام هذا الحد التنموي الفاصل، ماذا بإمكان هذه الأجهزة أن تقوم به؟

قد ترى تلك الأجهزة وغيرها في القطاع الحكومي عدم إلزامية هذا الخط بالنسبة لها، ليحضر سؤال آخر لا يقل أهمية عن السابق، لماذا لم تقم أي منها بدراسة وتحديد هذا الخط التنموي؟ ولعل أهم من يعنى بهذا الملف هو وزارة الاقتصاد والتخطيط، ألا يعد هذا الملف مهما من وجهة نظرها؟ هل تنتظر توجيها أو تكليفا رسميا للقيام به؟ أليس من ضمن مهامها ومسؤولياتها في الأصل أنها الجهاز الحكومي الذي تصب في قواعد بياناته جميع المعلومات والبيانات الاقتصادية للبلاد والمجتمع، فما العذر المانع لديها من عدم تحملها لأحد أهم مهامها ومسؤولياتها؟ فهل بعد هذا الجدل المثير حول خط الفقر ننتظر أن تبادر وزارة الاقتصاد والتخطيط بالإصدار المنتظم سنويا لهذا الرقم البالغ الأهمية، والذي يعد واحدا من أهم مؤشرات التنمية في البلاد؟ أم أن الانتظار سيطول بنا لعدة عقود أخرى؟

تمس القضية هنا مراحل تسبق في مراحلها التالية الوصول إلى خط الفقر، ذلك أن هذا الخط هو الخط الأخير من الحدود الدنيا لعدالة توزيع عوائد التنمية المستدامة. إذ يفترض أن يتحصل المواطن العامل على ما يمكنه من توفير متطلبات الحياة المعيشية، وفق ما حبا الله به هذه البلاد من خيرات وفيرة، لا أن تنتظر تلك الأجهزة المعنية وصول المواطن وأسرته إلى الحد الأدنى من شروط الحياة المستقرة، لتتحرك تلك الأجهزة إما بطلب من المؤسسات المدنية في المجتمع ومن المختصين أو بتدخل كريم من ولي الأمر ـــ أيده الله ــــ.

لا أعتقد أنا ولا غيري أن معالم المشهد التنموي الذي يعانيه المواطن وأسرته غائبة عن تلك الأجهزة المعنية، فالمواطن اليوم درجة عجزه عن الحصول على وظيفة كريمة بدخل مناسب أكبر بكثير من سقوطه في براثن البطالة، ودرجة عجزه عن تملك مسكنه وأسرته أكبر بكثير أيضا من بقائه مستأجرا، وحتى تكلفة الأخيرة "إيجار المسكن" تفوق درجة عجزه تجاهها قدرة دخله المتدني! وقس على ذلك بقية الجوانب والمتطلبات التنموية من رعاية صحية ونقل ومواصلات وخدمات بلدية وتعليم إلى آخر السلسلة التنموية. ماذا بإمكان تلك الأجهزة فعله وهي التي توافرت لديها الإمكانات والموارد المالية الهائلة؟ أسئلة لا مفر من ضرورة الإجابة عنها، تضاف إلى سلة الأسئلة السابقة أعلاه.

أبدأ في هذا الخصوص من وزارة العمل، التي أعلنت أخيرا "مضاعفتها" لعدد العاملين من المواطنين والمواطنات في القطاع الخاص بين نهاية عامي 2010 و2013، على أن أستكمل النقاش حول هذا الملف مع بقية الأجهزة الحكومية الأخرى في المقالات القادمة. فمنذ قررت وزارة العمل التخلي عن العمل بالاستراتيجية الوطنية للتوظيف، والانجراف وراء برامجها الراهنة التي تحقق لها نتائج أسرع بغض النظر عن وهمية الأغلب منها، ودون النظر لما سيترتب عليها مستقبلا من زيادة لتشوهات الاقتصاد الوطني بصفة عامة، وسوق العمل المحلية بصفة خاصة. حيث عاب على تلك البرامج، على الرغم من كثرتها، أنها غير مفيدة كما أثبتت النتائج لاحقا، والتضارب بين اشتراطات برنامج وآخر، ما ألحق الكثير من الأضرار بقطاع الأعمال المحلي، وبفرص العمل المتاحة أمام الباحثين عنها من ذكور وإناث. أؤكد لقد شابها العديد من العيوب، لعل من أخطرها عدم تفرقتها بين حجم المنشآت من حيث العمالة، ولا طبيعتها ومجال عملها، ولا حتى على مستوى نشاطها "خدمات، صناعة، تجارة"، فكل المنشآت في ميزان ونظر تلك البرامج واحدة! لهذا لا غرابة أن تنظر إلى "بنك" رأسماله 15 مليار ريال كنظرتها إلى "مشغل" رأسماله عشرة آلاف ريال!

إنها ترى أن التوظيف في البنك والمشغل على قدم المساواة، المهم لديها أن يحشر الموظف السعودي أو الموظفة السعودية هنا أو هناك بأي أجر، دون النظر إلى نوع وطبيعة ومستوى أجر تلك الوظيفة هل تلائم متطلبات الباحث عن عمل أم لا؟ هل يتوافر لتلك الوظائف المتدنية من يستطيع أن يشغلها من المواطنين أم لا؟ لهذا تفاقم التوظيف الوهمي بصورة غير مسبوقة بالتزامن مع تنفيذ تلك البرامج "السطحية"، التي لم تكن مؤهلة للغوص في أعماق وصلب التشوهات القائمة، وتعرضت الكثير من المنشآت الصغرى والمتوسطة لمخاطر التصفية وإغلاق نشاطها، ولعل مجرد النظر إلى الزيادة في توظيف السعوديات في نشاطي التشييد والبناء وتجارة الجملة والتجزئة، الذي تجاوز أكثر من 75 في المائة "نحو 340 ألف عاملة" خلال الفترة 2011 ـــ 2013 يؤكد ما أشير إليه هنا من انفراط مخالفات التوظيف الوهمي والتوظيف في وظائف متدنية المهارات والأجور، علما أن المرأة السعودية شكلت خلال العقدين الماضيين تفوقا علميا مقابل الرجل، فمن كل ثلاثة خريجين من التعليم العالي اثنتان منهم من الفتيات! وانظر ماذا ينتظرهن من فرص عمل!

أمام تلك الفواجع وغيرها مما لم يمهل الزمن تلك البرامج لينكشف بلاؤها وآثارها السلبية على الاقتصاد الوطني ومعيشة المواطن وفعالية القطاع الخاص، والتي اكتشفها أخيرا ومتأخرا مجلس الشورى، من تفشي الوظائف الوهمية، وتردي مستويات الأجور والوظائف التي تم تقديمها للمواطنين والمواطنات، وتكريس تلك البرامج للتشوهات الاقتصادية "أغلب وظائف القطاع الخاص أفرزتها تشوهات اقتصادية" كان من المفترض العمل على التخلص منها لا الاعتراف بها وتوطينها. أؤكد أمام كل تلك الآثار السلبية وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره، تتكرر المطالب مرة أخرى على ضرورة تعليق تلك البرامج، والعمل فورا على: (1) البدء بمعالجة الآثار السلبية التي خلفتها قبل أن تتفاقم أكثر مما هي عليه الآن، و(2) العودة للالتزام بما نصت عليه الاستراتيجية الوطنية للتوظيف، و(3) أن تتكاتف الجهود من بقية الأجهزة الاقتصادية والمالية في البلاد "تحت مظلة المجلس الاقتصادي الأعلى" نحو حل أزمة البطالة، ذلك أنها مسؤولية كل تلك الأجهزة وليست وزارة العمل إلا الحلقة الأخيرة. وللحديث بقية.

نقلاً عن "القتصادية"