تصدّر النصر السعودي والربيع العربي

أعترف بأنني لست متابعاً ولا مشجعاً رياضياً بالمعنى الحقيقي، فالرياضة بالنسبة إليّ كما هي السياسة بالنسبة إلى المواطن العربي «الغلبان» الذي وجد نفسه مدفوعاً بقوة مجهولة للخروج في الشوارع للمطالبة بحقوقه السياسية، وأخصها لقمة العيش، وبما أن الرياضة والسياسة لا تعنيان لي إلا اللعب وتسديد أهداف والصعود على أكتاف الجماهير، فقد تمثل لي نادي النصر السعودي الذي يتمتع بقاعدة جماهيرية عريضة وتاريخ طويل من النضال الكروي، فمنذ 60 عاماً حقق فيها مجموعة من الإنجازات التي من حقه أن يفتخر بها، فقد مثّل آسيا في أول بطولة عالمية رسمية للأندية، وبناء عليها حصد لقب العالمي، كما مثّل قارة آسيا بعد فوزه بكأس السوبر الآسيوية في 1998، إضافة إلى تحقيقه المركز الخامس على مستوى فرق البطولة في الترتيب العام وجائزة اللعب النظيف.

هذا الفريق المناضل أنجب قائمة طويلة من عمالقة الكرة السعودية على رأسهم عازف «سيمفونية» كرة القدم ماجد عبدالله، ومع كل هذا التاريخ المجيد ظل حبيس عنق الزجاجة نحو 15 عاماً لم يخرج منها إلا أخيراً، ليعلن تصدره بكفاءة عالية بعد سلسلة من الإخفاقات المتوالية، فهل هو الحظ العاثر الذي رافقه؟ هل هي المؤامرات التي كانت تحاك ضده؟ وفي المقابل على الضفة الأخرى تجسد السياسية في عالمنا العربي صورة غريبة يعجز العقل عن سبر غورها، وتفكيك رموزها لإدراك مآلاتها، إذ استطاعت الشعوب العربية المضطهدة بعد 30 عاماً من القمع، لإسقاط عتاة السياسة وأشرسهم. فالمقابلة هنا منطقية ومبررة، فالنصر الذي كان إلى وقت قريب مضطهداً من الظروف الزمنية والمكانية والحكام الخونة المتعصبين لأندية أخرى، كما كان يوجه لهم بعد كل هزيمة «نصراوية»، استطاع بجدارة أن يجتاز المرحلة، ويخرج من عنق الزجاجة، ويخترق كل حيطان الصد المتينة، ويتصدر بجدارة، وكأنه بذلك يتجاوب مع روح الشعوب العربية في ربيعها العربي، ليحقق ربيعه «النصراوي».

في منتصف الستينات الميلادية عمّ العالم العربي شعور غامر بضرورة البناء واللحاق بركب الحضارة والتقدم، وكانت النتيجة ضربة إسرائيلية قاصمة أعادت تشكيل خريطة العالم العربي لمصلحة الكيان الصهيوني، ومع ذلك أعاد العالم العربي استجماع قواه، وبدأ النهوض من خلال مراجعات لمفهومي الحرب والسلم، حينها كان نادي النصر السعودي يحتكر بطولة الدوري العام لثماني مرات على التوالي في السبعينات الميلادية، اقتنع العالم العربي بقدراته، وحاول جاهداً العمل على تحسينها من خلال استنفار قدرات الإنسان الخلاقة الكامنة، وعلى إثره تشكل عصرنا العربي الذهبي في الفن والفكر والأدب، بينما نادي النصر حينها كان يواصل إنجازاته، إذ احتكر جميع بطولات المملكة لثلاثة أعوام أخرى تضاف إلى رصيد بطولاته في التسعينات، كان العالم العربي ينتقل من زمنه الذهبي إلى زمنه الرمادي بعد احتلال العراق للكويت ودخول قوات العالم أراضي الخليج، لتحرير الكويت، ومع ذلك توج النصر تاريخه الذهبي من خلال فوزه ببطولة كأس الخليج مرتين وبطولة كأس الأندية الآسيوية وبطولة كأس السوبر الآسيوية.

توالت على العالم العربي مجموعة من النكسات الحضارية، وبدأ الشعور بالضيق والضجر من استشراء الفقر والبطالة وعمليات القمع المنظمة لشعوبه، خصوصاً في دول الربيع العربي.

نادي النصر انطفأت شعلته، ولحقت به هزائم متوالية، فما كان يتباهى به أصبح من ذاكرة الماضي الذي تبقيه على مشارف الأمل في استعادة مجده الآفل، ومع هذا احتفظ بقاعدته الجماهيرية المميزة، ومن أعمار صغيرة لم تغمرها فرحة بعد بانتصار مجيد لناديهم العالمي، وكأنها أصبحت عقيدة يناضلون لأجل تحقيقها، كما انتفضت الشعوب العربية التي ظننا أنها لحق بها اليأس والاستسلام المستبد، لإسقاط الظلم الذي أثقل عليها وجودها ردحاً من الزمن، فلم تفقد الأمل في النهوض مرة أخرى، وهكذا نادي النصر العريق الذي يصدق على مشجعيه صفة «بروليتاريا» أو الطبقة العاملة أو الكادحة بمفهوم سياسي، لتحقيق العدالة وتقاسم الثروة، لذلك لن نستغرب إضافة السنبلة إلى شعار نادي النصر الجديد، فجماهير النصر السعودي أثبتت أن لديها مبادئاً، مدعومة بحب جارف منقطع النظير، يناضل مشجعوه لأجل تحقيقها، وأنت تسأل من غذى عروقهم بكل هذا الانتماء الذي لا تطاوله الشكوك، ولا تفت في عضده الهزائم المتوالية؟ إذاً لا غرابة في أن يحصد نادي النصر جائزة عالمية أخرى تضاف إلى رصيده العالمي بعد فوزه الساحق «على ذمة ما نشرته بعض الصحف المحلية» بالمرتبة الأولى على مستوى الشعبية الجماهيرية، لذلك في زمن أصبحت النخبوية سبة توجه إلى الخصوم والمنافسين فحتى مستوى الخطاب الرسمي والجماهيري «النصراوي» يأتي على مستوى طبقات المشجعين في حالي النصر والهزيمة، لذلك تقترب من الشعارات المرفوعة في ساحات الربيع العربي تلك التي تتوعد بإسقاط الزعماء، فهل ينجح النصراويون كما نجحت الشعوب العربية؟ وهل أثبت النصر أنه على قدر هذا التحدي؟ وهل لديه القدرة على المحافظة على مكتسباته الأخيرة أو أنه سيفشل كفشل الربيع العربي في تحقيق الأمن والاستقرار وإعادة المياه إلى مجاريها؟ ومع هذا يحق للنصر اليوم أن ينطلق بكل فرح غامر متصدراً الدوري بكل زهو، وأن يعلو بذلك درجة تجعله واثقاً من نفسه لحد التباهي، فيعبر عنها بشعار صارخ «متصدر لا تكلمني»، وكأنه بهذا ينتقل لا شعورياً من مرحلة الكلام إلى الفعل.

نتمنى للنصر الاستمرار بحصد الانتصارات المتوالية حتى لا يبحث مستقبلاً عمن يكلمه ولا يجده، كما يحدث لشعوب الربيع العربي اليوم.


نقلاً عن "الحياة"